المغالطات المنطقية المركبة بسبب الشيوع في الإعلام – مدونة وسوم عبدالله السالم

المغالطات المنطقية المركبة

المغالطات المنطقية المركبة

المغالطات المنطقية المركبة مبنية -من اسمها- على المغالطات المنطقية البسيطة المبثوثة في كتب الفلسفة والمنطق الرسمي القديمة، إلا أن المغالطات المنطقية (Logical Fallacies) كجزء مستقل، تحولت إلى درس فلسفي تجميعي معاصر في علم المنطق، تابعٍ لفرع فلسفي معاصر أيضًا، نشأ في السبعينات تقريباً يسمى: المنطق غير الصوري أو غير الرسمي، وأُصدرتْ له صحيفة بهذا الاسم، على يد (رالف جونسون) و(أنتوني بلير)[1]، ثم جاء الإعلام الجديد وأصبح يصدّر لنا المغالطات المنطقية المركبة بعضها فوق بعض.

أصل المغالطات المنطقية

هذا فن جديد، مجتزأ من فن الجدل والمنطق الرسمي القديم، ومخصص للتعاملات البشرية اليومية، الملائمة للحياة السريعة التي نعيشها بعد الثورة الصناعية ورقمنة الإنسان.

أما أصل المغالطات المنطقية فقد وردت مفرقة في مقالات قدماء المناطقة الرومان، مثل أفلاطون وأرسطو، ثم المناطقة وعلماء الأصول المسلمين، مثل: الفارابي، ابن سينا، الرازي، الطوسي، ابن رشد، الغزالي وغيرهم، ثم الأوروبيين، مثل،: جون لوك، واتلي، شوبنهاور، جون ستيورات مل، بنثام وغيرهم[2].

وفي علم الكلام وأصول الفقه في التراث الإسلامي، تَرِدُ قضايا المغالطات المنطقية فرادى في أبواب مختلفة، منها الحديث في القياس عن العلة، شروط العلة ومسالك العلة وتعارض العلل، كما ترد عمومًا في أبواب الاستدلال، عند فحص الدليل، دلالته وثبوته وتعارض الأدلة، ونحو ذلك.

مثال ذلك، المصادرة على المطلوب، والاحتجاج بمحل النزاع، والدور، وفساد التقسيم، كلها من المغالطات المنطقية التي أفردت حديثًا في مواد مستقلة تحت مسميات مطابقة أو قريبة[3].

أشهر المغالطات المنطقية الحديثة

مغالطة الاحتكام للسلطة أو المرجعية

مثال ذلك: الجهاد الإسلامي غير مشروع، لأن الأمم المتحدة تحرّمه وتجرّمه.

أو جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، لأن المفتي قال عنهم ذلك.

مغالطة الاحتكام للأكثرية

مثال: أكثر القطريين يشربون الكرك، لا بد أنه أفضل مشروب في العالم، أو بما أن أكثر القطريين يحبون الكرك، وأنت لا تحب الكرك، فهذا يدل على أنك قطري مضروب، أو وطنيتك فيها نظر، حسنًا، ماذا إن كنت أفضّل لبن الخلفات؟

مغالطة التقسيم الخاطئ

وتسمى قديمًا في كتب أصول الفقه فساد التقسيم أو قادح التقسيم[4]، مثال ذلك: إن لم تكن مع الوطن فأنت مع الإرهابيين أعداء الوطن. دعنا أولًا نتفق على مفهوم الوطنية والوطن ثم نحصر التقسيمات من جديد.

مغالطة رجل القش

وهي مغالطة تقوم على تحوير فكرة النقاش خفيةً إلى بعض أجزائها الضعيفة، أو إلى فكرة أخرى مرفوضة، ومن ثم الانقضاض عليها تفنيدًا ودحضًا، مثال ذلك: يقول محاور إسلامي مؤيد للاستبداد السياسي لخصمه: أنت تطالب بالحرية والديمقراطية، انظر إلى الحرية في الغرب، حرية كفر وحرية انحلال أخلاقي، هل تؤيد الحرية الجنسية؟

أو يضع من الديمقراطية رجل قش بمهاجمة فكرة أن الديمقراطية هي حكم الشعب لا حكم الشريعة.

مغالطة الرنجة الحمراء

والاسم مأخوذ من عملية تدريب كلاب الصيد قديمًا، حيث يدربونها على تتبع روائح الفرائس، وفي مرحلة متطورة من التدريب يشتتون حاسة الشم لديها بوضع سمكة رنجة ذات رائحة قوية في طريق آخر.

وهي مغالطة تعني صرف تركيز المحاور إلى موضوع مفتعل غير موضوع الحوار الأساسي، لإثارة انفعاله وتشتيته.

مثال ذلك: دول الرباعي في الأزمة الخليجية لم تسئ إلى قطر أو تضرها، بل قاطعتها فقط، وحصار قطر الذي تعيد فيه وتزيد ليس حصارًا بل مقاطعة، هل هو حصار أم مقاطعة، لا جاوبني الآن.

حسنًا، ماذا فعلت بالله بالموضوع الأساسي، الإساءة والإضرار بقطر والقطريين، وآثار حصار قطر عليها وعلى المنطقة، حتى لو سمينا حصار قطر احتضان قطر.

ومن عبقرية داون براون أنه عندما أراد في رواية شيفرة دافنشي توظيف مغالطة الرنجة الحمراء جعل الأسقف الذي يمثل وظيفة الرنجة الحمراء -لتوجيه القارئ لنتائج زائفة بعيدًا عن الحقيقة- باسم أرينجاروزا وهو نفس المعنى بالإيطالية.

مغالطة المقارنة

ومثالها: لو قام شخص أو جماعة بجريمة شنيعة، لقال أحد الأتباع: لو فعلتها الجماعة الفلانية لما اهتم أو تحرك أحد.

داعش صنيعة أمريكا، لماذا تحارب الأنظمة العربية ولا تحارب إسرائيل؟

إيران والصهاينة وجهان لعملة واحدة، لماذا حزب الله لا يحرر فلسطين؟

وهناك مغالطات منطقية أخرى أكتفي منها بما ورد.

دور الإعلام في نشر المغالطات

الإعلام هو السلطة الرابعة التي تحرك الشعوب، وتهندس وعيها، تزيفه أو تنقيه، وإذا كانت الحكومات الاستبدادية في السابق تسيطر على مصادر الإعلام بقبضتها الحديدية، فإن الإعلام الجديد بعد الثورة التقنية أصبح عصيًّا على السيطرة بالطريقة التقليدية، لكني أشعر رغم ذلك بوجود توجيه خفي على شكل مؤامرة أو تخطيط سري، لرسم خط سير محدد للإعلام العالمي، في منصاته الكبرى، وتطبيقاته الأكثر انتشارًا، ولدى رموزه الأكثر تأثيرًا.

والذكاء في آلية السيطرة جزء من عملية التضليل، فالسيطرة لم تعد بالقبضة الحديدية كما في السابق، لأن الممنوع مرغوب، ولكنها اليوم تتمثل في عملية ابتلاع السائد الشائع للقليل المخالف، بهدوء وحرية منقوصة.

فيصبح الإعلام الجديد الموجه سلطة خفية للتعبئة الذهنية، وقد مر معنا من أنواع المغالطات المنطقية مغالطة الاحتكام للسلطة، فإذا كانت الفكرة من الأساس مغالطة منطقية ثم أحيل الأمر في تبريرها والاستدلال على صحتها بالاحتكام لسلطة الإعلام، أصبحنا أمام واحدة من المغالطات المنطقية المركبة بسبب الشيوع والانتشار في الإعلام فقط.

بعض المغالطات المنطقية المركبة

في عصر الإعلام الجديد وطوفان المعلومات والمعلومات المغلوطة والمغالطات صار من الشائع تعاضل المغالطات المنطقية فوق بعضها كما يتعاضل الجراد.

وكثافة الضخ الإعلامي الدعائي الموجه (البروباغندا) عامل مستقل، قائم بذاته في صناعة المغالطات المنطقية المركبة، ومن أمثلة ذلك في عصرنا:

توسيع نطاق البيدوفيليا

البيدوفيليا انحراف أخلاقي يعني التحرش أو الاعتداء الجنسي على الأطفال، وهذا لا ريب في قبحه وجرمه في كل الشرائع والقوانين والأعراف.

لكن من هو الطفل؟ وما العمر المحدد لذلك؟

أغلب دول العالم اليوم تحدد سن الـ 18 حدًّا فاصلًا بين الراشدين ومن سواهم، بمن في ذلك الأطفال والقاصرين. أما في الشريعة الإسلامية، فالتحديد منوط بالبلوغ، فهو سن الرشد، فمتى بلغ الطفل سن البلوغ أصبح راشدًا مكلفًّا بالأحكام الشرعية والمسؤولية القانونية والاجتماعية، بلغ الثامنة عشر أم لم يبلغ.

ومن هنا شاعت حكاية الاحتجاج على زواج القاصرات في البلدان العربية والإسلامية، لاعتبار الإعلام المكثف هذا الفعل من البيدوفيليا والاعتداء الجنسي على الأطفال، وانتشرت الأصوات التي تتهم الشريعة الإسلامية والعادات العربية بالانحراف المَرضي، والهوس الجنسي، بل طال ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، لأنه تزوج عائشة وهي بنت ست سنين، ودخل بها وهي بنت تسع[5].

لذا، فحين يعترض معترض على إدانة الزواج بفتاة بالغة لها 13 أو 14 سنة، يرمى عن قوس واحدة من قبل تيار النسوية وأدعياء حقوق الإنسان والحرية الجنسية، بأنه بيدوفيلي منحرف، لأن الإعلام ينشر استقباح البيدوفيليا بشكل مكثف.

ديماغوجية مفهوم الإرهاب

الحرب على الإرهاب ومكافحة الإرهاب والهروب من تهمة الإرهاب طالها أيضًا عبث الإعلام في المغالطات المنطقية المركبة، لأن الإرهاب نفسه غير متفق على مفهومه ولا صوره.

فعندما يناقش مناقش في بعض التصرفات المشروعة من الإرهاب، مثل الكفاح المسلح لصد الاعتداء، أو لإخراج المحتل، كما تفعل حركة حماس، اتهم رأسًا أنه نصير للإرهاب.

بل إن الأمر تجاوز هذا بكثير، فبات الإعلام الموجه يلحق وصف الإرهاب بكل مظهر ديني إسلامي، الإسلام السياسي، الإخوان المسلمين، الصحوة، إنكار المنكر، اللحية، نشر مقطع وعظي عن فضل السواك. كلها تنبئ عن توجه إرهابي، وأصحابها إما إرهابيون أو متعاطفون مع الإرهاب، ومن يخالف هذا التوجس الغوغائي فهو منهم أيضًا.

وإذا عدّت القوى الدولية أو الكبرى منها، مثل أمريكا، جماعةً أنها إرهابية فإن تطبيقات الإعلام الجديد مثل يوتيوب وتويتر وفيسبوك ونحوها، تفحص المواضيع التي تتناولها، وتمنع ظهور ما يخالف منها التوجه الدولي العام، تمامًا مثل الحد من ظهور المواضيع عن كورونا المستبد إلا بمعايير منظمة الصحة العالمية.

عمل المرأة

جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948م) بحزمة من الحقوق المعتبرة من المنظور العلماني الغربي، وهي في الغالب جيدة، سوى بعض الحقوق التي تنطلق من فكرة المساواة التامة بين الجنسين، مصادمة بذلك ما قررته الشريعة الإسلامية التي تدين بها معظم بلدان العالم الإسلامي.

ثم زادت الجرعة في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979م)، المعروفة باتفاقية سيداو (CEDAW)، وما عقبها من اتفاقيات متعلقة، ومؤتمرات وتوصيات، تكرس فكرة أن العمل حق للمرأة، مثل حقها في الحياة والتنفس والحرية، حتى أصبح العصر عصر المرأة فقط.

والتأصيل العلمي في الحديث عن مشروعية عمل المرأة يوجب أولًا تفكيك المصطلح إلى أجزائه: العمل، والمرأة، فينظر إلى موضوع العمل على حدة، ما طبيعة العمل؟ وما مدة العمل؟ وأين مكان العمل؟ وما الحاجة إلى العمل؟ ثم ينظر إلى موضوع المرأة على حدة، ما حالة المرأة الاجتماعية؟ وما الحكم الشرعي لخروجها من المنزل؟ وما ضوابط الخروج؟ وما إلى ذلك.

أما أن يمرر المصطلح مسلوقًا على وجه السرعة هكذا، ثم يقرر بطريقة المغالطات المنطقية، ثم يروج له في الإعلام بهذه الكثافة، فهذه من المغالطات المنطقية المركبة.

بالمناسبة: كانت رسالتي في الماجستير بعنوان: أثر عمل الزوجة على حقوقها وواجباتها الشرعية، تناولت فيها موضوع عمل المرأة -الزوجة تحديدًا- بشكل مستفيض.

نماذج أخرى من المغالطات المنطقية المركبة

لا يمكننا حصر المغالطات المنطقية المركبة، وأنتم بدوركم قد تضيفون ما وجدتموه ولم أذكره، ولكنا كل يوم نشاهد العديد من هذا التضليل المقصود وغير المقصود.

كان هناك برنامج تلفزيوني حواري عن حرية الشذوذ الجنسي، وكان الضيفان طرفي نقيض، واحد مع، والثاني ضد.

بعد انتهاء البرنامج، تم تصويرهما وهما يتصافحان ويطبطبان على أكتاف بعضهما بابتسامة متبادلة، وقد كتب تحت المقطع، نختلف نعم، ولكن نبقى أصدقاء.

الشذوذ الجنسي أمر لا يمكن استساغته والقبول به في البلاد الإسلامية، بل وفي كثير من دول العالم، فهو من أقبح القبائح دينيًّا وأخلاقيًّا وإنسانيًّا.

ومحاولة الترويج لأدب الحوار فيه، وتصافح المتحاورين، وقبول كل منهما لأفكار الآخر، تسخيف لهول القضية ودرجة الانحراف فيها، وكأن الضيفين المتحاورين مختلفان حول طبق من المعكرونة، هل يفضله بالخضار أم بالدجاج!

هذا أيضًا  نوع خفي من المغالطات المنطقية المركبة التي يروج لها الإعلام.


[1] عادل مصطفى، المغالطات المنطقية: ص12.

[2] انظر: يوسف بطرس كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة.

[3] انظر: أحمد دعدوش، المغالطات المنطقية في وسائل الإعلام: ص10.

[4] انظر: النملة، المهذب في علم أصول الفقه المقارن: 5/2207.

[5] صحيح البخاري

د. عبدالله السالم
د. عبدالله السالم
شاعر ناقد مدون من قطر

اترك لي أثرك

المغالطات المنطقية المركبة
هذا الموقع مثل كل المواقع التي تستخدم الكوكيز لتحسين تجربة المستخدم عند زيارة الموقع مرة أخرى، فهل توافق على تذوق كعكنا؟ Data Protection Policy.