دعائم الاستبداد في الفقه السياسي الإسلامي – وسوم عبدالله السالم : مدونة شخصية قطرية ثقافية

دعائم الاستبداد في الفقه السياسي الإسلامي

دعائم الاستبداد في الفقه السياسي

الاستبداد السياسي أمر ترفضه الشرائع والقوانين والعقول والفطر السليمة، فليس لأحد لم يخصه الله بخصيصة واضحة كالنبوة والرسالة أية ميزة تفضله على من حوله ليحكمهم ويستولي على أمرهم من دون رضاهم، وهذا هو البغي والظلم والطغيان المحرَّم في كل الشرائع، إلا أن تراث الفقه السياسي الإسلامي ساهم بلا قصد في تثبيت دعائم الاستبداد على مر التاريخ الإسلامي من خلال تقريره لبعض الأحكام الفقهية التي طارت بها الأنظمة السياسية المستبدة وجعلتها من القضايا الكبرى التي قد تقارب تخوم المقدس وتلامس حدود المعتقد، وسأذكر هذه المسائل الفقهية في نقاط.

حصانة الحاكم

تمنح كتبُ الفقه السياسي في التراث الإسلامي الحاكمَ حصانةً عن المساءلة القانونية والمجتمعية لنزاهة مفترضة، وذلك بالتصريح أو التلميح أو السكوت أحيانًا في معرض البيان، والنزاهة المفترضة بسبب ذكرهم في أول كتب السياسة الشرعية لشروط الخليفة، ومنها: الإسلام والعدالة والاجتهاد ونحو ذلك.

فهي تغض الطرف عن الممارسات المنحرفة التي أحدثها عهد المـُلك المُتوارث بدءًا من عصر الدولة الأموية، كالمبالغة في تبجيل الحاكم ورسم هالة من الهيبة والأبَّهة حوله يتم تغذيتها في الجانب الآخر بمبالغات الشعراء وتنطع الأدباء وتخضّع الندماء وتذلل المدّاحين والمتسولين.

فإذا ذُكر وصف الخليفة أو الإمام في كتب الفقه السياسي الإسلامي المُسمَّاة السياسة الشرعية استحضر الذهن تلك الصورة المُعظمة المتفوقة والمتمايزة عن بقية الرعية.

كما أسهم في رسم هذه الصورة ما يتعمد فعله علماء السلطان وفقهاء البلاط من التركيز على النصوص الشرعية والآثار والفتاوى التي تحذر الناس من عصيان الولاة والخروج عليهم والاعتراض على ظلمهم وترغّب في الصبر على ذلك، وكأنه لا يوجد في الإسلام إلا هذه النصوص والأحكام، ومع ذلك يتم تغييب النصوص التي تحذّر الحكام من الظلم والجور والاحتجاب عن الرعية والمحاباة وغير ذلك.

أما الفقه السياسي الإسلامي في عصر الخلافة الراشدة فيما يتعلق بشخصية الحاكم وحدود صلاحياته وحقوقه فهي أبعد ما تكون عن الصورة السابقة.

فقد كان الخلفاء يؤكدون في خطبهم أنهم أشخاص طبيعيون لا ميزة لهم عن غيرهم بالولاية ولا فضل لهم على أحد من الرعية، بل إن معلمهم الأول النبي الكريم قد نبههم قبلًا إلى هذه القيمة السياسية الأخلاقية عندما قال للرجل الخائف الذي أتاه فجعلت ترعد فرائصه: “هوّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد”(1).

القديد: لحم مقطع ومملح ومجفف في الشمس والهواء، ونسميه اليوم في لهجتنا: الشريح.

وكان الخليفة أبو بكر يطلب من الصحابة راتبًا يغنيه عن التجارة في السوق ليتفرغ لعمله كخليفة للمسلمين فيعطونه مبلغًا من بيت مال المسلمين يسد حاجته.

وكان الخليفة عمر يتجول في طرقات المدينة يتعهد الفقراء والمساكين ويختلط بالناس في الأسواق والطرقات ويستمع إلى شكاويهم ويقضي حوائجهم ويطلّع على أحوالهم عن كثب.

فأين شخصية الحاكم المضخمة التي تخيف بهيبتها وحاشيتها وأدبياتها كل من تسوّل له نفسه السؤال عن شرعية قرار أو المطالبة بحق من الدولة؟

ومن هنا طالت أيدي الحكام في المال العام وأصبح مال المسلمين مالًا خاصًّا للحاكم يصرفه كما يشاء حسب نزاهته المُفترضة وتوجُّهه واجتهاده دون أن يكون للمسلمين دور في المشاركة أو المحاسبة.

فإن كان الحاكم صالحًا صرف مال المسلمين في أوجه الخير وتنمية العلوم والمجتمع وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية، وإن كان فاسدًا صرفه على الشعراء والمدّاحين والغانيات ومجالس الأنس ورحلات الصيد والهبات الخاصة، وإن كان بين هذا وذاك فالأمر كذلك، وليس لعموم المسلمين ولا حتى خصوصهم أي حق في سؤال الحاكم أنى لك هذا؟

وقد يقول قائل: هذه النماذج المذكورة لم تعد تناسب عصرنا، وذلك لأنها خاصة بحقبة تاريخية سابقة كانت الدولة فيها بدائية بسيطة.

وهذه مغالطة، فالحديث هنا عن شخصية الحاكم وحدود سلطته وطبيعة وظيفته، وهذه المسائل هي هي في العصور القديمة والحديثة، بل إن التغيير الذي طرأ عليها بسبب انحراف وظيفة الحاكم عن مقصودها الصحيح بدأ قديمًا منذ كانت البيئة لا تختلف كثيرًا عن البيئة التي حكم فيها النبي وأبو بكر وعمر.

كما مكّنت هذه الحصانة الحاكم من التغول السلطوي بجمع سلطات الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية كلها في يده، مع غياب تام لأي جهة رقابية أو تقويمية.

ومن هنا امتلأت كتب التاريخ والسير بفتك الحكام بخصومهم السياسيين بطرق هي أصرخ صور الاستبداد السياسي كأن يقوم الحاكم أو أحد ولاته بجرّ أحد المخالفين من رأسه في المسجد في يوم العيد ونحره على المنبر دون محاكمة، فالحاكم هنا هو المشرع والقاضي والمنفّذ(2).

ولاية العهد

يكاد يُجمع كل الذين كتبوا من السلف في قضايا الفقه السياسي الإسلامي على شرعية ولاية العهد(3)، وذلك لأن النظام المستبد في عصورهم كان يقرر هذا بحد السيف ابتداء من ولاية يزيد بن معاوية للعهد.

وقد كان بعض الصحابة يعترضون على ولاية يزيد للعهد لكن الأمر حُسم بالغلبة والقوة.

وقد لخص أحد الموالين لمعاوية الموقف الأموي من الخلافة بعبارة بسيطة حيث كان معاوية يستفتي الناس في ولاية العهد لابنه يزيد فقال يزيد بن المقنع: هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا وأشار إلى سيفه: فقال معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء(4).

ثم ذهب المؤلفون في الفقه السياسي الإسلامي يبحثون عن سند شرعي لمشروعية تولية العهد، فوجدوا في فعل الصديق رضي الله عنه شبه سند حيث أوصى من بعده بخلافة عمر.

وقد يحتج البعض بأن تسمية ولي العهد حال وجود الحاكم إجراء يقطع مادة الفتنة ويغلق باب الفوضى ويستبق كل ما يهدد الأمن والأمان بعد موت الحاكم، وهذه حجة حسنة النية خطيرة النتيجة، ودليل خطورتها ما نراه اليوم من استغلال الأنظمة المستبدة لهذا العذر في قصر ولاية العهد على ما يراه الحاكم مناسبًا، وهو بالعادة لا يخرج من كون ولي العهد أحد إخوته أو أبنائه، حتى وإن كان في الشعب من هو أصلح وأكفأ.

وبهذا صارت اجتهادات العلماء في الفقه السياسي الإسلامي في تشريع ولاية العهد إحدى دعائم الاستبداد وركيزة للأنظمة الملكية التي يرسم الملك فيها خارطة طريق لشعبه يسمي فيها من يليه في الحكم، وربما يتجاوز ذلك إلى تسمية ولي ولي عهد، وقد يجعل من هذا إحدى المواد  الدستورية للبلاد، فينص في الدستور على أن الحكم لا يخرج عن إخوته أو أبنائه.

والذي يتماشى مع العدل ومبادئ الحرية المتسقة مع روح الشريعة أن خلافة عمر لم تكن بولاية العهد المجردة، بل برضا العامة بعد اقتراح أبي بكر، ولو لم يرضوا لم يكن لوصيته أي أثر، ولذلك فإن أبو بكر كان يسألهم: أترضون بمن أستخلف عليكم؟(5).

وأرى أن اختلاف آلية اختيار الحاكم بين سكوت النبي الكريم قبل موته وتوصية أبي بكر بعمر وتوصية عمر بالستة كلها دلائل على أن اختيار الحاكم موكول إلى رضا الأمة في كل عصر، فإذا رضيت في عصر أبي بكر بما يوصي به فإنها قد لا ترضى في عصور أخرى بوصية الحاكم.

ثم إن القرآن الكريم وهو الدستور العام لكل أحكام الإسلام تحدث بالتفصيل عن قضايا أقل أهمية من قضية قيادة الأمة، ومع ذلك لم يتطرق إليها أبدًا، وكأنه يتركها إلى اجتهاد الأمة واختيارها بما يناسب ظروف كل عصر، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته.

مفهوم أهل الحل والعقد

من القضايا الشائكة التي ترد في أكثر مؤلفات الفقه السياسي الإسلامي قضية أهل الحل والعقد، وهم المنوط بهم مهمة اختيار الحاكم.

ومشكلة هذه القضية هو ما يحيط بها من غموض وضبابية في المفهوم، مما حولّها إلى مستند تشريعي ودعامة من دعائم الاستبداد السياسي واختطاف الحكم.

وذلك أن مفهوم أهل الحل والعقد غير منضبط لا في الواقع ولا حتى في كتب السياسة الشرعية(6).

فالبعض يرى أن أهل الحل والعقد هم العلماء المجتهدون، أي علماء الشريعة فقط، والبعض يضيف إليهم قادة العسكر وأمراء الجند، والبعض يضيف كبراء القبائل، ثم التجار والأدباء وأهل الفضل والحكمة ونحو ذلك.

ومن هنا يستطيع أي نظام سياسي مستبد أو ينوي الاستبداد أن يُدخل في مفهوم أهل الحل والعقد من يشاء ويُخرج من يشاء بما أن الأمر متاح لذلك، وبالطبع سيُدخل من يعضّد حكمه ويُخرج من يعارض حكمه حسب مصلحته هو، وبهذا يتخذ من هذه المسألة الفقهية دعامةً من دعائم الاستبداد.

وبالإضافة إلى هذا التضارب في تحديد مفهوم أهل الحل والعقد فإنه قد حصل التضارب أيضًا في مسألة أقل العدد من أهل الحل والعقد الذين تنعقد بهم بيعة الإمامة، حتى أوصله بعضهم كالإمام الجويني إلى شخص واحد(7) !

وماذا إن كان هذا الشخص أخاه أو ابنه!؟

والواقع المؤسف أن هذه الجماعة التي تسمى أهل الحل والعقد بدلًا من أن توجد الحاكم باختيارها له أصبح الحاكم هو الذي يوجدها، فيجمع حوله من الموالين له أعيان الناس وكبراءهم وتجارهم، وحتى من لم يكن منهم من أولئك ابتداء فإنه يصبح كذلك بقربه من الحاكم واستقوائه به، فيصبح من الأعيان والكبراء والتجار وأهل الحل والعقد أيضًا.

عدم إلزامية الشورى

أمر الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه، فقال تعالى: “وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ(8)  وهو نبي معصوم يوحى إليه.

ثم نجد بعد ذلك في مباحث السياسة الشرعية في تراث الفقه السياسي الإسلامي من يقلل من أهمية الشورى بقوله الشورى معلمة وليست ملزمة، وهذا مما يغري الحاكم ويفتح الطريق أمامه لأن يستبد بالرأي والقرار، متخذًا من هذا الاجتهاد الفقهي دعامةً من دعائم الاستبداد السياسي.

وحتى الذين قالوا بوجوب الشورى ولزومها لم يذكروا لها آلية عملية للتأكد من تطبيق هذه القيمة الهامة ومراقبة تنفيذها، بل تركوا الأمر مرهونًا باختيار السلطة للآلية التي تُطبّق بها الشورى.

شرعية الحاكم المتغلب

وجد العلماء الذين بحثوا قضايا الفقه السياسي الإسلامي أنفسهم أمام أنظمة مستبدة قد نهبت الحكم نهبًا بالغلبة وقوة الشوكة، فلم يجدوا بدًّا من نهي الناس عن القتال والخروج بالسيف وذلك حقنًا للدماء وتقديمًا للضرر الأخف على الضرر الأشد، وهذا في الأساس حكم سياسي واقعي لا شرعي.

والقصور أتى من توقف المؤلفين والفقهاء عند هذا الحكم الطارئ حتى أصبح كأنه هو الأصل، وأن حق الأمة في اختيار من يحكمها قد سقط بالتقادم، وأنه ليس على المسلمين حيال حكم المتغلب إلا التسليم والطاعة تمامًا كما لو كان من يحكمهم هو عمر الفاروق.

وكان الواجب من حيث الفقه السياسي الإسلامي والسياسة الشرعية توضيح الأمر بكل ملابساته، فمنع الخروج على الحاكم المستبد ليس لأنه بمجرد تغلبه أصبح واليا شرعيًّا ورد في القرآن الأمر بطاعته بعد الله والرسول في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ “(9) وإنما سبب منع الخروج هو تغليب المصلحة الظرفية والمصلحة هنا مجازًا لا حقيقة، إذ هي ليست مصلحة وإنما مفسدة أخف.

فكأنه يقال للناس: لا تثوروا، لا تخرجوا على هذا الحاكم، ليس لأنكم بهذا الامتناع تحققون مصلحة بل لأنكم مضطرون لفعل مفسدة أخف من أختها، على أن تعمل الأمة ما في وسعها للقدرة على خلعه واستبعاده وتولية من هو أحق منه بالولاية.

ثم إن القول بشرعية الحاكم المتغلب هو خروج صارخ على مبادئ العدل الذي جاءت الشرائع كلها لتثبت أركانه من خلال إرسال الرسل والأنبياء إلى حكام طغاة مستبدين يدعونهم إلى الله والعدل والحق، ويدعون الناس إلى طاعة الله لا طاعة الحاكم المستبد.

 دور الفقهاء في تثبيت دعائم الاستبداد

قد يظن البعض أن علماء السلف الأفاضل الذين اجتهدوا في الفقه السياسي الإسلامي أرادوا هذه النتائج، أي أن تكون اجتهاداتهم وبحوثهم دعائم للاستبداد السياسي، ولكن من العدل تبرئتهم في المجمل من هذه التهمة، بل  ما سجلته كتب التاريخ والسيَر عنهم أنه لم  يسلم منهم إلا القليل في مواجهة السلطة في زمانهم، لثباتهم على مبادئهم واجتهاداتهم الشرعية، مما تسبب في تعذيب بعضهم وسجن بعضهم، ومن هؤلاء: الإمام أبو حنيفة، الإمام مالك بن أنس، الإمام الشافعي، الإمام أحمد بن حنبل، سفيان الثوري، ابن تيمية، ابن القيم، العز بن عبد السلام، ابن حزم، ابن الجوزي، وغيرهم كثير.

ولكن بما أن المجال هنا هو الاجتهاد في السياسة الشرعية فكان الأجدر بمن ألَّف منهم في هذا الباب الانتباه لما يمكن أن يُتَّخذ من دعائم الاستبداد من أقوالهم واجتهاداتهم، ومن ثم تغليب فقه المآلات والمقاصد على فقه الرأي المجرد.


الهوامش

(1) ابن ماجه، السنن، حديث رقم (3312). الألباني، السلسلة الصحيحة، حديث رقم (1876).

(2) من ذلك القصة الشهيرة عن خالد بن عبدالله القسري والي الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك على العراق، قال في خطبة العيد: أيها الناس: ضحوا تقبّل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، ثم نزل من المنبر وجره من رأسه وذبحه. انظر: البخاري، خلق أفعال العباد، ص29.

(3) انظر: الماوردي، الأحكام السلطانية، ص30. القاضي أبو يعلى، الأحكام السلطانية، ص23. ابن جماعة، تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، ص56.

(4)  ابن الأثير، الكامل في التاريخ 3/101.

(5)  الطبري، تاريخ الرسل والملوك: 3/428.

(6) انظر: الماوردي، الأحكام السلطانية: ص17. الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم، ص21. ابن جماعة، تحرير الأحكام: ص52.

(7) الجويني، غياث الأمم: ص67.

(8) آل عمران: 159

(9) النساء: 59.

د. عبدالله السالم
د. عبدالله السالم
شاعر ناقد مدون من قطر

2 تعليقات

  1. يقول Aisha Moh:

    الكاتب منقطع بعد كتابته هذا المقال !
    لعله خير يا حضرة الرأي و الرأي الآخر

اترك لي أثرك