الأدب الساخر والطقطقة – وسوم عبدالله السالم : مدونة شخصية قطرية ثقافية

الأدب الساخر والطقطقة

الأدب الساخر

الأدب الساخر معروف في التراث الأدبي العربي والعالمي، أما الطقطقة فهي مُسمى لنوع جديد من الأدب أو قلة الأدب، لا أدري أيهما بالضبط، لكن المقصود هو المنتج الكتابي والإعلامي الساخر في وسائل التواصل والتعبير الجديدة، التي يعجُّ بها عالمنا الرقمي.

أدب السخرية

السخرية ليست مقبولة بإطلاق، بل الأصل فيها المنع، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) [الحجرات: 11]، فللسخرية أنواع وأحوال، ولها آداب وحدود، ومنها المذموم المستقبح ومنها المقبول المستظرف، فمن المذموم:

سخرية المستكبر

عندما يسخر القوي من الضعيف، والقادر من العاجز، والغني من الفقير، فهذه من السخرية الممجوجة القبيحة، وليست من الأدب الساخر في شيء، بل هي استكبار وخيلاء وغمط للناس.

سخرية العنصري

السخرية من المختلف والغريب والآخر، مثل السخرية من لون الشخص أو عرقه أو أصله أو بلده، هي أيضًا من السخرية القبيحة التي لا تعتبر من الأدب الساخر أو أي آدب آخر.

السخرية اللاذعة

وهي السخرية التي تبلغ أو تقارب حد الشتيمة القبيحة والسب المباشر والاعتداء المرفوض، فهي هنا تفقد قيمتها الأدبية وتتحول إلى فحش ولغو، وقد كان النقاد يهملون في شعر الهجاء الشعر ذا الألفاظ النابية المباشرة، ويعدّون أوجع الهجاء، الانتقاص الهجائي غير المباشر، مثل قول الحطيئة للزبرقان بن بدر:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي.

أو قول جرير لعبيد الراعي:

فغضَّ الطرف إنك من نميرٍ

فلا كعبًا بلغت ولا كلابا.

السخرية الفارغة

وهي أغلب فكاهة وسائل التواصل اليوم، سواء كانت من خلال عمل المقالب الباردة في الآخرين، أو الظهور بوضعيات مضحكة في ظن أصحابها، وفي حقيقة الأمر فإن الشخص هنا يسخر من نفسه، بل يجعل من نفسه مادةً للسخرية على الدوام، لإضحاك الآخرين وكسب المزيد من الجمهور، للترقي في سلم الشهرة البغيضة التي تؤجّجها رقمنة الإنسان المعاصر.

وقد يعتبر أبو دلامة إمام هؤلاء في الوضاعة، فقد هجا نفسه لإضحاك الناس فقال:

ألا أبلغ لديك أبا دلامة

فليس من الكرام، ولا ‌كرامة

إذا لبس العمامة كان قردًا

وخنزيرًا إذا نزع العمامة

جمعت دمامة وجمعت لؤمًا

كذاك اللؤم تتبعه الدمامة

فإن تك قد أصبت نعيم دنيا

فلا تفرح، فقد دنت القيامة

لكنه حتى في هذا الموقف فقد كان مضطرًا إذ أمره الخليفة المهدي أن يهجو واحدًا في المجلس، ولم يكن في المجلس سواه والخليفة وابن أخيه وبعض وزرائه، فهجا نفسه[1]. وقد كان عبدًا ألعوبة بيد الخلفاء، السفاح والمنصور والمهدي، وقد كان شاعرًا جيد الشعر[2].

كما أن كتب الأدب العربي لم تحفظ عن هؤلاء إلا شذرات قليلة من حياتهم العريضة، فيبدون لنا كأنهم شخصيات هزلية على طول الخط، فيما هم في الحقيقة أشخاص طبيعيون، لديهم حياة جادة، وجانب ظريف، على عكس بعض مشاهير اليوم.

الجاحظ مثلًا، شخصية أدبية كبيرة، وله مؤلفات كثيرة وإسهامات مهمة في التراث العربي، لكنه في العموم كان شخصًا ظريفًا سريع البداهة في الهزل، قال ابن أبي دؤاد عن الجاحظ وقد أطلقه من الحبس بعد قتل ابن الزيات: “أنا ‌أثق ‌بظرفه ولا أثق بدينه”[3].

ومن المقبول من أنواع السخرية:

سخرية العاجز

مثل سخرية المظلوم ممن ظلمه، وسخرية الضعيف من القوي الذي أوجعه، ويعدُّ من ذلك: سخرية الشعوب المسحوقة من الحكام المستبدين، إذا عجزوا من مجابهتهم، ويكون ذلك من خلال الأدب الساخر بأنواعه، كالشعر والقصة والمسرح والمقالة، والفن الساخر بأنواعه، كالتمثيل والغناء والرسم ونحو ذلك.

وسبب قبول مثل هذا النوع من السخرية، أنه من المشروع مدافعة الظلم والقهر، بل والمقاتلة في سبيل ذلك، والسخرية أهون من المقاتلة، فهي مقبولة من باب أولى.

السخرية البيضاء

وهي ألطف أنواع السخرية وأنقاها، إذ هي تركّز على الأفكار والمواقف والأحداث، وتستعمل اللغة والأداء الفكاهي، ولا تتعرض للأشخاص إلا قليلًا ومن باب الضرورة، ومنها الكوميديا السوداء، وكتبت مرة تدوينة بعنوان كوميديا بيضاء من غير سوء، وهي نوع من ذلك.

وأرشح مشهور السناب السعودي نايف حمدان لتمثيل هذا الدور من الأدب الفكاهي الساخر.

عن الأدب الساخر

السخرية

عرف الإنسان السخرية والفكاهة والظرافة منذ بدء الخليقة، لا أدري متى بالضبط على وجه التحديد، لكني متيقن أن الإنسان القديم كان مشغولًا بالجد والعمل أكثر من إنسان اليوم الذي ينجز الكثير من المهام بضغطة زر أو عدة أزرار، وبالتالي فأظن أن الأمم السابقة كانت أقل منا هزلًا ولعبًا وميلًا إلى الطقطقة والاستظراف والضحك، وبقية الاهتمامات التافهة.

وقد اشتملت كتب الأدب العربي التراثية على أقسام مخصصة للأدب الساخر، تحت عناوين مثل: الطرائف أو الفكاهة أو الظرافة، وأخبار الحمقى والنوكى والبخلاء[4]، ونحو ذلك.

وكانت هناك شخصيات أدبية مشهورة في السخرية والهزل والحمق، من ذلك: جحا، أشعب، هبنقة، أبو دلامة، أبو نواس، الجاحظ وغيرهم. ويبدو أنهم كانوا مشاهير الطقطقة في زمانهم.

على أية حال، لم يكن العرب ولا أية أمة عاقلة في تصوري، تجعل للهزل شأنًا أعلى من الجد، ولا يوجد شخص يقدّم نفسه على الدوام أنه شخص هزلي هازئ ساخر مطقطقجي، إلا الحمقى والمجانين، إذ هم يفعلون هذا لأنه أقصى ما لديهم من عقل وجدية.

وحتى بعض الشخصيات الهزلية في التراث العربي، هي شخصيات خرافية خيالية، وإن كان أصلها حقيقيًّا، إلا أن الرواة يضيفون عليها كل ما لديهم من سيناريوهات ساخرة أو هزلية، وهذا شبيه بما في زماننا من فن النكتة، إذ نقول: مرة كان هناك رجل، والحقيقة أنه لم يكن هناك رجل.

جحا مثلًا، تضاربت الأقوال في شخصيته، فقيل هو أبو الغصن دجين بن ثابت اليربوعي، وقيل هو أبو الغصن ثابت بن قيس المدني، وهذان شخصان سويان، لا يمكن أن تصدر عنهما تلك الحماقات التي تُروى في نوادر جحا، بل وثّق بعض علماء الحديث رواية أبي الغصن المدني، واختلفوا في رواية الآخر[5].

وقال الشيرازي نقلًا عن مكي بن إبراهيم: رأيت ‌جحا الذي يُقال فيه: مكذوب عليه، وكان فتى ظريفًا، وكان له جيران مخنثون يمازحونه، ويزيدون عليه[6].

ثم جاء عصر الصحافة وبرزت أسماء عربية في الأدب الساخر، من خلال كتابتهم مقالات ساخرة في الصحف، من هؤلاء: المصري جلال عامر، والسوداني جعفر عباس، والفلسطيني أسامة فوزي، والأردني أحمد الزعبي، والسعودي عبدالله المزهر، والقطري عبدالله السالم، أوه اللي هو أنا، بصوت أسامة فوزي.

الحقيقة: أول اسم كتبت به في موقع الساحة العربية في بداية الألفية كان (القلم الساخر)، ومع الوقت فقدت مهارة السخرية وأصبحت حانقًا فقط.

عن الطقطقة

الطقطقة

الاستظراف، السخرية، المزاح، العيارة، التريقة بالمصري، التخويث ونكش المخ بالأردني، كلها مفردات متقاربة تعني المزاح والفكاهة، لكن الطقطقة شكل خاص من ذلك. وإن كان لديك لها لفظة جديدة من اللهجات العربية فأضفها مشكورًا في التعليقات.

والطقطقة لفظة سعودية في الأصل، وبسبب كثرة السعوديين في تويتر وفي وسائل التواصل الأخرى مثل اليوتيوب وسناب شات وإنستغرام وواتساب، أصبحت اللفظة خليجية شائعة، وتعني التهكم والسخرية من الآخرين، أفرادًا أو جماعات، يمارسها من يدعي «الفطنة والذكاء والفهلوة» أمام من يعتبرهم «طيبون وسذج» على حد تعبير عروبة المنيف.

والطقطقة تلزم وجود ضحية تكون الطقطقة عليها، ويضحك الجميع، وتعيش الأسرة بسعادة، وكذا.

ولعل من أوائل من نشر ثقافة الطقطقة كنوع من أنواع الكوميديا والأدب الساخر، الممثل الكويتي طارق العلي في مسرحياته المختلفة، فهو يأتي بشخص عبارة عن كيس ملاكمة كوميدية، يمارس عليه الطقطقة من بداية المسرحية حتى نهايتها.

ثم انتشرت هذه الظاهرة في وسائل التواصل، وأصبح لدى كل مشهور من مشاهير التواصل شخصية معدّة للطقطقة، إمّا طفل دب، أو طفل دب أسمر، أو شيبة كبير، أو عجوز، أو صديق، أو حيوان أليف، فإذا لم يجد المشهور المطقطقجي مادةً لطقطقته فإنه يعود يطقطق على نفسه، المهم أن يضحك الجميع وتعيش الأسرة بسعادة، ويرتفع عداد المشاهدات والمتابعات.

وأظن أن بداية الطقطقة في السعودية وبعض دول الخليج كانت مقتصرة على مهاترات ومكايدات مشجعي أندية كرة القدم عند فوز فريق على فريق، ثم دخل أسلوب الطقطقة المجال السياسي الجاد على أيدي الوطنجية في الأزمة الخليجية وحصار قطر، بل اتسع ليشمل المجال الفكري، لذا قد تجد من يناقش أفكار الإسلام السياسي، أو سبب فشل الإخوان المسلمين في مصر بطريقة هزلية سطحية قائمة على الضحك والإضحاك.

والغالب في نوع الطقطقة المنتشر هذه الأيام في وسائل التواصل هو النوع الذميم من السخرية، كالسخرية العنصرية والسخرية الفارغة وسخرية الاستكبار على الناس، أو حتى الشتيمة والسباب والكلام المبتذل المعيب. المهم أن يحصل على جائزة من قبيل: اجلد، في منتصف الجبهة، ضغطته، اعمل نفسك ميت.. إلخ.

أما إذا كانت الطقطقة كما سبق معنا في تقسيم أنواع السخرية، من سخرية صاحب الحق العاجز، ضد الظالم المتسلط، فإنها طقطقة مقبولة وتشفي صدور قوم مؤمنين، ومن ذلك: طقطقة المعارض السعودي عمر بن عبد العزيز على الحكومة السعودية وأنصارها من المطبلين، في عهد الأمير محمد بن سلمان.

وكذا طقطقة اليوتيوبر المصري يوسف حسين، صاحب برنامج جو شو، فهو يطقطق فيه على حكومة السيسي في مصر وعلى الإعلام المصري الموالي للحكومة، وعلى الحكومات العربية القمعية.

وفي النهاية، فالأدب الساخر وكذا الطقطقة المقبولة مواهب فطرية تُؤتى لبعض الناس ويُحرم منها الآخرون، ومن ليس ظريفًا موهوبًا بالفطرة في ذلك، فإنه حين يحاول الاستظراف يصبح ثقيلًا مملًّا بشكل لا يُطاق، فتوقفوا عن محاولة إضحاكنا أيها الثقلاء.


[1] انظر: البيهقي، المحاسن والمساوئ: 124.

[2] انظر: ابن المعتز، طبقات الشعراء: 54.

[3] الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: 14/124.

[4] انظر مثلا: ابن عبد ربه، العقد الفريد، الجزء السابع، كتاب الجمانة الثانية في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين.

[5] انظر: ابن حبان، المجروحين: 1/360. الذهبي، سير أعلام النبلاء: 7/225.

[6] الذهبي، سير أعلام النبلاء: 7/225.

د. عبدالله السالم
د. عبدالله السالم
شاعر ناقد مدون من قطر

اترك لي أثرك

الأدب الساخر والطقطقة
هذا الموقع مثل كل المواقع التي تستخدم الكوكيز لتحسين تجربة المستخدم عند زيارة الموقع مرة أخرى، فهل توافق على تذوق كعكنا؟ Data Protection Policy.