بحثت في جوجل عن عبارة الجهاد في سبيل الله، لأرى ماذا يقول أهل الشريعة اليوم عن الجهاد في عصرنا.
خصوصاً مع متابعة المسلمين -شعوباً وحكومات- لما يحدث اليوم في غزة من مجازر مستمرة تقشعر لها الأبدان، لأن ما أعرفه وما درسوني إياه من الصغر حتى الدكتوراة أن الجهاد فريضة محكمة، وهو فرض على المسلمين، ليقوم به من في قيامه الكفاية، وهذا جهاد الطلب، أما جهاد الدفع فهو فرض عين على كل فرد.
الجهاد في جوجل
لم أجد شيئاً من المسلّمات الشرعية التي درسوني إياها عن الجهاد، بل ظهرت لي في الصفحة الأولى عدة نتائج كما يلي:
النتيجة الأولى: الجهاد مستحيل
في مقدمة النتائج مقالة في موقع قناة الجزيرة، وهي مقالة لأستاذ في علم الشريعة كما يقدّم نفسه، المقالة تقول إن الجهاد كي يكون جهاداً مشروعاً في زماننا يجب أن ينجح في الإجابة عن ستة أسئلة: لماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ ومع من؟ وضد من؟
النتيجة الثانية: الجهاد تطرف مرفوض
وهي مقالة مطولة أشبه بتقرير أمني سياسي عن الجهاد منذ العهد المكي إلى الوقت الحاضر، وخلص فيه الكاتب إلى أن الجهاد اليوم تطرف مرفوض ابتدعه في العصر الحاضر رموز الأصولية المتطرفة: المودودي وسيد قطب وحسن البنا.
لكن هذا التوجه لا يستغرب حين نعرف أن الكاتب أمريكي أستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة فلوريدا أتلانتيك، وعرفه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى التابع للجنة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) بأنه أحد الخبراء البارزين في مجال السلفية والإسلام الراديكالي وسياسة الشرق الأوسط المعاصرة والعلاقات الأمريكية العربية الإسرائيلية. ونعم الخلطة!
النتيجة الثالثة: الجهاد تغير
وهذه مقالة تبرز مقولة منسوبة لجمال البنا تقول إن الجهاد لا يعني الموت في سبيل الله بل الحياة في سبيل الله، قالها ضمن كتاب ألفه بعنوان الجهاد.
وجمال البنا هو أخو حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان الإسلاميين، حسن البنا الذي كان يدعم الجهاد المتطرف المرفوض حسب رأي أستاذ الإسلام الراديكالي السابق ذكره. بمعنى أن النتيجة كانت رداً على حسن البنا ليس من أحد المسلمين أو أحد الإخوان المسلمين، بل من أحد الإخوان الطبيعيين من داخل منزل آل بنا، وهذا أبلغ في الرد وتسفيه الرأي.
النتيجة الرابعة: الجهاد جهاد النفس
وهي مقالة في موقع قناة الجزيرة أيضاً لكاتب ملتحٍ تبدو عليه سمات المسلم المتدين، وقد عرّف عن نفسه أنه طالب علم شرعي، والمقالة توجه إلى المعاني الأخرى للجهاد، غير المعنى المعروف، ويقول الكاتب بحسرة في ذلك: “لقد ضلَّ كثيرٌ من المسلمين في هذا العصرِ في حين قصروا الجهاد في سبيل الله تعالى على جهادِ السيف”. هداهم الله هؤلاء الكثير من المسلمين الذي يمشون في الشوارع اليوم وهم مخترطين سيوفهم في سبيل الله.
مزيد من العراقيل
عندما فتحت المقالة الأولى وجدت أستاذ الشريعة يضيف المزيد من العراقيل أمام طريق الجهاد في عصرنا فيقول:
“الإجابة على هذه الأسئلة الستة في وقتنا الحاضر لن تكون من اختصاص الفقيه فحسب، بل يشترك في الإجابة عليها جمع من المتخصصين، ذلك أن الإجابة عليها ستكون إجابة معقدة ومركبة تبعاً لتعقد الحياة والواقع وتركيبه، بخلاف الإجابات البسيطة التي كانت تصدر قديما من الفقيه فحسب”.
تعسير يفضي إلى التعطيل
لماذا يعسّر علينا أستاذ الشريعة الجهادَ بهذه الطريقة في زمننا الذي نستطيع فيه أن نمارس جميع شعائرنا الإسلامية الكبرى إلا الجهاد، زمننا الذي نحن محتاجون فيه إلى الجهاد أكثر من أي وقت مضى؟
نستطيع أن نفهم هذا التعسير لو كنا في عصر الفتوحات الإسلامية في الدولة الأموية مثلاً، إذ يريد أستاذ الشريعة وقتها أن يخفف قليلاً من حماس المسلمين المندفعين للجهاد، ليهتموا بالعبادات الأخرى، أو ليعطوا الأمم الأخرى (المسكينة) فرصة لاسترداد الأنفاس، إن كان الأستاذ الشرعي يخفي في داخله نزعة ليبرالية.
أما أن يعرقلنا عن الجهاد في عصرنا هذا! وأين الجهاد في عصرنا؟ وأين طوابير المجاهدين حتى يقول الأستاذ لهم: على رسلكم، هناك فلاتر ستة يجب أن تتجاوزوها كي نسمح لكم بالجهاد.
إنه لو جعلها فلتراً واحداً فلن يتجاوزه إلا القليل من القليل، وبعد أن يتجاوزوه سيؤخذون إلى جهاز مكافحة الإرهاب 15 سنة للتحقيق.
ما سر هذه الانتقائية في نوعية المحتوى المتعلق بالجهاد من حيث معايير القبول والنشر والبروز في الصفحات الأولى للنتائج في محركات البحث؟
من وراء العبث بحكم الجهاد؟
هناك بعض الأسباب مثل:
- ظهور وانتشار تيار الإسلام الكيوت (cute) في زماننا، التيار الاعتذاري الذي يشعر بالخجل والذنب تجاه العديد من الأحكام الشرعية أمام الثقافة الغربية. ومن هنا فإن أطروحات هذا التيار محببة للنظام الدولي ومؤسساته المختلفة، ومن ذلك منصات النشر العالمية، ومحركات البحث الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، لذا فهي المقدمة والمؤهلة للنشر والانتشار، لأنها تنشر السلام والتعايش والمحبة، وما يخالفها محكوم عليه بالحجب أو التهميش، لأنه ينشر الكراهية والعنف.
- التحكم الرقمي بالمحتوى المنشور، عن طريق معايير محركات البحث للنشر الجيد، الجيد حسب ذوق صاحب السلطة في ذلك، ومن ذلك ما يعرف بـ معايير SEO التي تجعل المحتوى المشتمل على هذه المعايير أحب إلى محركات البحث. وكذلك معايير المحتوى الجيد، والجيد حسب ذوق وتوجه صاحب السلطة في ذلك أيضاً، ويدخل فيه صراحةً: الانحياز الواضح لبعض الأفكار ومحاربة الأخرى، ومن الأفكار المحارَبة الجهاد في سبيل الله.
التحكم بالمحتوى الرقمي
صدر سنة 2020 فيلم وثائقي بعنوان: المعضلة الاجتماعية، تحدث فيه بعض الخبراء المختصين في تصميم وهندسة بعض وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث، جوجل وفيسبوك وغيرها.
تناول الفيلم معضلة تحكم هذه المواقع بمرتاديها، من حيث ربطهم بها بما يشبه الإدمان، وكذا من حيث توجيه أفكارهم والسيطرة على منابع تغذيتها.
يقول: تريستان هاريس خبير أخلاقيات التصميم لدى جوجل سابقاً، في مقابلة له: “يعتقد الناس أن ما يشاهدونه على اليوتيوب هو اختيار. يجلس الناس هناك، ويفكرون، ثم يختارون. ولكن هذا ليس صحيحا. سبعون بالمائة مما يشاهده الناس على اليوتيوب (حيث يقضي 2 مليار شخص وقتهم) هو مقاطع الفيديو الموصى بها على الجانب الأيمن، من قبل الخوارزميات المتخصصة”.
وأردف: “هناك حكومات يمكنها بالفعل التلاعب بالطريقة التي يعمل بها نظام التوصيات”.
وأردف أنا: بما أن هناك حكومات، فلا شيء يمنع أن يكون هناك جهات أخرى ليست الحكومات، وأهلا بكم في نظرية المؤامرة من جديد.
والآن اخبروني: ماذا ستضيفون من الأسباب الأخرى التي ساهمت في تغييب ذكر الجهاد في سبيل الله في عصرنا؟ أنا قد تناولت هذا الموضوع من زوايا مختلفة في كتاب: الجماعات الإسلامية المعاصرة، في مبحث العلاقة بين الإرهاب والجهاد.
أما هنا فأنتظر مشاركاتكم في خانة التعليق في الأسفل.