خرج آمر السجن من البوابة الخارجية فهاله الهدوء الذي يعم الصحراء المحيطة بالسجن وقال بحبور: الحمد لله على نعمة الأمن والأمان لا جرائم ولا مجرمين هنا!
لابد أنك سمعت وقرأت هذه العبارة كثيرا، الحمد لله على نعمة الأمن والأمان، يقولها خطيب الجمعة والواعظ والمفتي والإعلامي ورجل الشارع وأبوك وجاركم وحتى حاكم البلاد يطل عليك من الشاشة وبعد أن يذكرك بالانفلات الأمني في سوريا وتسلط الإسرائيليين في فلسطين والفوضى في اليمن والحروب الأهلية في أفريقيا والمجاعة في الصومال قبل 40 سنة وقتل خاشقجي في القنصلية يقول وربما يغمز لك: الحمد لله على نعمة الأمن والأمان.
المصيبة أنه قد يكون شريكا بالخفاء أو حتى سببا رئيسا في العلن في ثلاثة أرباع الكوارث التي ذكرها.
الصراحة أني لا أدري ولست مهتماً أن أدري، هكذا وجدنا عليها أباءنا وأجدادنا ومطبلينا، والحقيقة أنه لا أهمية لإيجاد الفارق بينهما، وستجدون من يجتهد في ذكر الفرق بينهما فيقول: الأمن عمل أجهزة الأمن والأمان الشعور الذي تتركه في نفوس الناس، ومن هذا الرخيص.
مثل مرة وسوس لي الشيطان ورحت أبحث عن الفرق بين الدافع والهدف فضيعت من وقتي ساعات وأنا أقرأ، وقد دخل على الخط ألفاظ أخرى جديدة مثل الباعث والحافز والغاية والحاجة والقصد، وكلها اجتهادات معاصرة قابلة للأخذ والرد.
لاشك أن الأمن والأمان نعمة جليلة، ومن فقد الأمن والأمان على نفسه وعلى أهله وعلى المكان الذي يعيش فيه فهو ليس بخير أبدا.
وهذه النعمة المقصود بها الأمن والأمان للإنسان الصالح السوي فرداً أو جماعة، لأن الأمن والأمان للمجرم ليس بنعمة على البقية بل نقمة، إذن فهذه العبارة قد تكون حقا وقد تكون باطلاً والأكثر في استعمالها هذه الأيام أنها حق يراد به باطل.
يقايض الطغاة دائما أمن الشعوب بالديكتاتورية، الاستبداد بالحكم والاستئثار بالثروة والتنكيل بالمخالف، ومن هنا انتشرت في ربوعنا العربية ثقافة “اترك عنك السياسة” والشعوب العربية ليست جاهزة للديمقراطية، واحمد ربك على نعمة الأمن والأمان.
والمقصود بهذا: لا تثٍر مسألة النظام الديموقراطي في الحكم أو الملكية الدستورية ولا تسأل عن آلية توزيع ثروة البلاد ولا تنتقد شيئا بصوت مسموع، فإذا طبقت كل هذه الشروط فلك أن تنعم بالحياة والأكل والشرب والتزاوج مثلك مثل أي دابة ذات أهمية في هذا الكوكب، كحيوانات السيرك وأبقار مزارع شركات الحليب ونحوها.
ولا تكتفي بعض الأنظمة القمعية بهذه الشروط بل يجب عليك أيضاً أن تحمد الله على نعمة الأمن والأمان ولا بأس بالقليل من التذكير بين الفينة والأخرى أن مرجع هذه النعمة وسببها هو وجود سيدي فلان بن فلان أمد الله في عمره وسلطانه ورزقه البطانة الصالحة لأن كل هذا الفساد المنتشر من عمل البطانة الفاسدة، إن لم تفعل فأنت مشكوك في أمرك وتحتاج لإعادة تأهيل في مفهوم الوطنية ومراجعة القنصلية.
وهذا يشبه أن يتسلط عليك من هو أقوى منك وبعد أن يحكم قبضته عليك يفقأ عينك أو يجدع أذنك أو يبتر يدك ثم يقول: تركت لك الثانية، ألا تملك الآن نعمة يجب أن تحمد الله على وجودها؟ وألا أستحق منك الشكر لأني لست مثل غيري من الأقوياء الظالمين الذين كانوا سيقتلونك أو يحرمونك من بقية الأعضاء؟
بلى يا سيدي الحمد لله على نعمة العين الواحدة والأذن الواحدة واليد الواحدة والخيار الواحد والأمن والأمان وأشكرك على هذه المكرمة.
للأنظمة القمعية المستبدة طرق وأساليب لربط الشعوب بها بشكل طفولي أو للانقضاض على الخصوم السياسيين سواء أكانوا أفراداً أو جماعات أو أحزاباً أو تنظيمات، وذلك عن طريق العبث بأمن الناس في الخفاء لكي يهرعوا إليها مستنجدين: نريدكم نريدكم، وسنتحمل المر في ظلالكم، شريطة أن تحمونا من هذا الانفلات الأمني المروع، ومن تلك الأساليب الشيطانية:
مشكلتي ليست مع نعمة الأمن والأمان بل مع المطبلين لها في أكثر دولنا العربية أو جميعها، وذلك أن الدول العربية إلا ما نجا منها بأعجوبة تحتاج إلى سنين ضوئية من الإصلاح والتطوير والتنمية، حتى تصبح دولاً متقدمة مؤثرة في العالم، ومن أهم عوامل تحقيق هذا جمعها تحت راية واحدة لا هذا التمزق العربي المنهك. وإلهاء الناس بعدّ المناقب في هذه المرحلة نوع من الغش والخديعة لثنيهم عن إكمال مسيرة التقدم المنشود.
الأمر الآخر أن حمد الله على النعم يكون عادة في الخفاء؛ أو بشكل فردي؛ كأي عبادة خاصة، كما أن نعم الله علينا كثيرة لا تحصى، لذا إفراد نعمة الأمن والأمان بشكل خاص، ثم الصدح بها على المنابر، ثم حث الناس على حمدها، أمر يثير الريبة، ويشير مباشرة إلى المعنى الخفي المقصود، وهو الثناء على الحاكم وتمجيده فقط، ولكن من “وراء أبا العبل”.
في الوطن العربي قرابة 23 دولة تختلف اختلافاً كلياً في مجالات عدة، الاستقرار السياسي، الأمن الداخلي، الأمن الخارجي، قوة الاقتصاد، حقوق الإنسان، السيادة على الأرض، انتشار الجرائم، الثورات، الحروب، مستوى الديمقراطية .. إلخ.
إلا أنها تتفق جميعها في وجود أبواق من الإعلاميين والسياسيين والخطباء والمفتين والفنانين وغيرهم تلهج كثيرا بالحمد والشكر على نعمة الأمن والأمان في بلدانهم، وكأن المعنى في بعض هذه البلدان: احمدوا ربكم أنكم تُقتلون بالقنابل والبراميل الحارقة وليس بالنووي والكيمائي، أو احمدوا ربكم أنكم تقتلون وتقطعون في قنصليات بلدانكم لا في الأماكن المشبوهة، أو احمدوا ربكم أن الحكومة تحاسبكم على الكلام لا الصمت فقط، وهكذا.
ربما سيتحرج بعض القراء من إلصاق هذا الوصف القبيح بالفقه الإسلامي النزيه، ولكن الحق أن هذا ثابت في تاريخنا الإسلامي وحركته الفقهية والسياسية بكل أسف.
والفقه الإسلامي لا أعني به الوصف المجرد العام مثل نصوص القرآن والسنة الثابتة وما نتج عنه من فقه علمي منضبط بل المقصود به مجموع ما أنتجته عقول الفقهاء من اجتهادات واستنباطات وتفسيرات وفتاوى وأقضية، فهو هنا مرتبط بالاجتهاد البشري المتحرك والمتغير والمتأثر بالظروف والأحوال.
ومنذ اختطاف شؤون الحكم والقيادة من الأمة الإسلامية والفقه الإسلامي يعاني من وجود ما يسمى بفقهاء السلطان أو علماء البلاط، على تفاوت في أثر هذه المحاباة على فقههم وفتاويهم.
ومن هنا رأينا الانحسار التدريجي لثقافة النقد والصدع بالحق الموجه إلى السلطة إلى أن تحول في أزماننا هذه إلى وصف معاكس تماماً كوصفه بالخروج على ولي الأمر، أو شق عصا الطاعة، أو تفريق الجماعة، أو الخيانة ونحو ذلك.
وأصول هذا التوجه مبثوثة في كتب الفقه السياسي الإسلامي بحسن أو سوء نية، وكلما مر زمان زاد التركيز على هذه الجذاذات المتفرقة لإبرازها وتجاهل ما يعارضها، ومن ذلك: