نعمة الأمن والأمان أم نقمة الظلم والاستبداد - عبدالله السالم

نعمة الأمن والأمان

نعمة الأمن والأمان

خرج آمر السجن من البوابة الخارجية، فهاله الهدوء الذي يعمّ الصحراء المحيطة بالسجن، وقال بحبور: الحمد لله على نعمة الأمن والأمان لا جرائم ولا مجرمين هنا!

لابد أنك سمعت وقرأت هذه العبارة كثيرًا، الحمد لله على نعمة الأمن والأمان، يقولها خطيب الجمعة، والواعظ، والمفتي، والإعلامي، والراقصة، ورجل الشارع، وأبوك، وجاركم حسن، وحتى حاكم البلاد، يطل عليك من الشاشة وبعد أن يذكرك بالانفلات الأمني في سوريا، وتسلط الإسرائيليين في فلسطين والفوضى في اليمن وليبيا، والحروب الأهلية في أفريقيا، والمجاعة في الصومال قبل 40 سنة، وقتل خاشقجي في القنصلية، يقول وربما يغمز لك بعينه: الحمد لله على نعمة الأمن والأمان.

المصيبة أنه قد يكون شريكًا بالخفاء، أو حتى سببًا رئيسًا في العلن، لثلاثة أرباع الكوارث التي ذكرها.

ما الفرق بين الأمن والأمان؟

الصراحة أني لا أدري ولست مهتمًّا أن أدري، هكذا وجدنا عليها أباءنا وأجدادنا ومطبلينا، والحقيقة أنه لا أهمية لإيجاد الفارق بينهما، وستجدون من يجتهد في ذكر الفرق بينهما فيقول: الأمن عمل أجهزة الأمن والأمان الشعور الذي تتركه في نفوس الناس، ومن هذا الرخيص.

مثل مرة وسوس لي الشيطان ورحت أبحث عن الفرق بين الدافع والهدف فضيعت من وقتي ساعات وأنا أقرأ، وقد دخل على الخط ألفاظ أخرى جديدة مثل: الباعث والحافز والغاية والحاجة والقصد، وكلها اجتهادات معاصرة قابلة للأخذ والرد.

معنى نعمة الأمن والأمان

لاشك أن الأمن والأمان نعمة جليلة، ومن فقد الأمن والأمان على نفسه وعلى أهله وعلى المكان الذي يعيش فيه فهو ليس بخير أبدًا.

والمقصود بهذه النعمة هو الأمن والأمان للإنسان الصالح السوي فردًا أو جماعة، لأن الأمن والأمان للمجرم ليس بنعمة على البقية بل نقمة، إذن فهذه العبارة قد تكون حقًّا وقد تكون باطلًا والأكثر في استعمالها هذه الأيام أنها حق يُراد به باطل.

كذبة الأمن والأمان

يقايض الطغاة دائمًا أمن الشعوب بالديكتاتورية: الاستبداد بالحكم والاستئثار بالثروة والتنكيل بالمخالف، ومن هنا انتشرت في ربوعنا العربية ثقافة “اترك عنك السياسة”  والشعوب العربية ليست جاهزة للديمقراطية، واحمد ربك على نعمة الأمن والأمان.

والمقصود بهذا: لا تثِر مسألة النظام الديموقراطي في الحكم أو الملكية الدستورية، لا تبحث في طرق انتهاء ولاية الحكام، لا تسأل عن آلية توزيع ثروة البلاد، لا تنتقد شيئا بصوت مسموع، فإذا طبقت كل هذه الشروط فلك أن تنعم بالحياة والأكل والشرب والتزاوج، مثلك مثل أي دابة ذات أهمية في هذا الكوكب، كحيوانات السيرك، وأبقار مزارع شركات الحليب ونحوها.

ولا تكتفي بعض الأنظمة القمعية بهذه الشروط بل يجب عليك أيضًا أن تحمد الله على نعمة الأمن والأمان ولا بأس بالقليل من التذكير بين الفينة والأخرى أن مرجع هذه النعمة وسببها هو وجود سيدي فلان بن فلان أمد الله في عمره وسلطانه ورزَقه البطانة الصالحة لأن كل هذا الفساد المنتشر من عمل البطانة الفاسدة، إن لم تفعل فأنت مشكوكٌ في أمرك وتحتاج لإعادة تأهيل في مفهوم الوطنية ومراجعة القنصلية.

وهذا يشبه أن يتسلط عليك من هو أقوى منك وبعد أن يحكم قبضته عليك يفقأ عينك أو يجدع أذنك أو يبتر يدك ثم يقول: تركت لك الثانية، ألا تملك الآن نعمة يجب أن تحمد الله على وجودها؟ وألا أستحق منك الشكر لأني لست مثل غيري من الأقوياء الظالمين الذين كانوا سيقتلونك أو يحرمونك من بقية الأعضاء؟

بلى يا سيدي، الحمد لله على نعمة العين الواحدة والأذن الواحدة واليد الواحدة والخيار الواحد والأمن والأمان وأشكرك على هذه المكرمة.

طرق العبث بالأمن والأمان

للأنظمة القمعية المستبدة طرق وأساليب لربط الشعوب بها بشكل طفولي أو للانقضاض على الخصوم السياسيين سواء كانوا أفرادًا أو جماعات أو أحزابًا أو تنظيمات، وذلك عن طريق العبث بأمن الناس في الخفاء لكي يهرعوا إليها مستنجدين: نريدكم نريدكم، وسنتحمل المر في ظلالكم، شريطة أن تحمونا من هذا الانفلات الأمني المروع، ومن تلك الأساليب الشيطانية:

  • التآمر مع الخارجين على القانون من المجرمين والمرتزقة والقتلة المأجورين للقيام بعمليات إرهابية متنوعة، كالاغتيالات والتفجيرات ونحو ذلك، ويكثر هذا في حال قيام الشعب بثورة تطالب النظام بالرحيل أو الإصلاح، وحدث هذا كثيرًا في فترة حكم الإخوان في مصر لإفشالهم والعودة إلى النظام السابق ولو بشكل جديد.
  • افتعال عمليات عسكرية تخريبية ضد الجيش أو الشرطة أو منشآت الدولة، لإلصاقها بجماعة أو حزب أو تنظيم منافس يهدد استقرار النظام الحاكم ولو بالفكر فقط، ومن ثم إزاحة هذا الكيان المزعج للنظام عن طريق شن الحرب عليه وقتل قادته أو إعدامهم أو سجنهم.
  • تخويف الناس على الدوام بوجود دول وتنظيمات سرية وكيانات معادية، تتحيّن الفرصة للانقضاض عليهم وعلى مجتمعهم ودينهم وهويتهم وأخلاقهم، وتضخيم الموجود واختلاق المفقود.
  • تصنيف أي مظهر لقول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمطالبة بالحقوق والإصلاح والنصح والتصويب المُوجّه للنظام الحاكم أو بعض أفراده أنه خروج على الجماعة وتهديد لأمن الدولة وإثارة للفتنة وتأليب للرأي العام، وبقية هذه الأوصاف المطاطة التي اخترعتها الأنظمة وتعمدت تركها بهذه الضبابية لتستغلها قانونيًّا بإيقاع العقوبات التي تريدها لمن تشاء من الخصوم.
  • إشاعة ثقافة الصمت وغض الطرف عن أي مخالفة للحاكم وأعوانه مهما كان حجم تلك المخالفة، لأن البديل هو تهديد الأمن والأمان للفرد الذي ينوي الاعتراض أو النصح في أمر تلك المخالفة، واعتبار هذا الصمت ذكاء وحكمة ونجاح، أما الكلام فحماقة وقلة عقل وسوء تصرف.
  • التهويل من أهمية بدعة الأمن الفكري وتكريس التحذير عن ما يُوصم بالأفكار الدخيلة، والمقصود بذلك حجب وإدانة كل فكرة تعكر صفو النظام الحاكم وبيئته المناسبة لاستقراره واستمراره بدون إصلاح.

المطبلين بـنعمة الأمن والأمان

مشكلتي ليست مع نعمة الأمن والأمان بل مع المطبلين لها في أكثر دولنا العربية أو جميعها، وذلك أن الدول العربية -إلا ما نجا منها بأعجوبة- تحتاج إلى سنين ضوئية من الإصلاح والتطوير والتنمية، حتى تصبح دولًا متقدمة مؤثرة في العالم، ومن أهم عوامل تحقيق هذا جمعها تحت راية واحدة لا هذا التمزق العربي المنهك. وإلهاء الناس بعدّ المناقب في هذه المرحلة نوع من الغش والخديعة لثنيهم عن إكمال مسيرة التقدم المنشود.

الأمر الآخر أن حمد الله على النعم يكون عادةً في الخفاء؛ أو بشكل فردي؛ كأي عبادة خاصة، كما أن نعم الله علينا كثيرة لا تحصى، لذا إفراد نعمة الأمن والأمان بشكل خاص، ثم الصدح بها على المنابر، ثم حث الناس على حمدها، أمر يثير الريبة، ويشير مباشرة إلى المعنى الخفي المقصود، وهو الثناء على الحاكم وتمجيده فقط، ولكن من “وراء أبا العبل”.

التطبيل في عصرنا

في الوطن العربي قرابة 23 دولة تختلف اختلافًا كليًّا في مجالات عدة، الاستقرار السياسي، الأمن الداخلي، الأمن الخارجي، قوة الاقتصاد، حقوق الإنسان، السيادة على الأرض، انتشار الجرائم، الثورات، الحروب، مستوى الديمقراطية .. إلخ.

إلا أنها تتفق جميعها في وجود أبواق من الإعلاميين والسياسيين والخطباء والمفتين والفنانين وغيرهم تلهج كثيرا بالحمد والشكر على نعمة الأمن والأمان في بلدانهم، وكأن المعنى في بعض هذه البلدان: احمدوا ربكم أنكم تُقتلون بالقنابل والبراميل الحارقة وليس بالنووي والكيمائي، أو احمدوا ربكم أنكم تُقتلون وتُقطَّعون في قنصليات بلدانكم لا في الأماكن المشبوهة، أو احمدوا ربكم أن الحكومة تحاسبكم على الكلام لا الصمت فقط، وهكذا.

التطبيل في الفقه الإسلامي

ربما سيتحرج بعض القراء من إلصاق هذا الوصف القبيح بالفقه الإسلامي النزيه، ولكن الحق أن هذا ثابت في تاريخنا الإسلامي وحركته الفقهية والسياسية بكل أسف.

والفقه الإسلامي لا أعني به الوصف المجرد العام مثل نصوص القرآن والسنة الثابتة وما نتج عنه من فقه علمي منضبط؛ بل المقصود به مجموع ما أنتجته عقول الفقهاء من اجتهادات واستنباطات وتفسيرات وفتاوى وأقضية، فهو هنا مرتبط بالاجتهاد البشري المتحرك والمتغير والمتأثر بالظروف والأحوال.

ومنذ اختطاف شؤون الحكم والقيادة من الأمة الإسلامية، والفقه الإسلامي يعاني من وجود ما يُسمى بفقهاء السلطان أو علماء البلاط، على تفاوت في أثر هذه المحاباة على فقههم وفتاويهم.

ومن هنا رأينا الانحسار التدريجي لثقافة النقد والصدع بالحق المُوجَّه إلى السلطة إلى أن تحول في أزماننا هذه إلى وصف معاكس تمامًا كوصفه بالخروج على ولي الأمر، أو شق عصا الطاعة، أو تفريق الجماعة، أو الخيانة ونحو ذلك.

وأصول هذا التوجُّه مبثوثة في كتب الفقه السياسي الإسلامي بحسن أو سوء نية، وكلما مر زمان زاد التركيز على هذه الجذاذات المتفرقة لإبرازها وتجاهل ما يعارضها، ومن ذلك:

  •   ما نراه اليوم من الاهتمام المريب بحديث “وإن ضرب ظهرك وأكل مالك” وكأنه أحد أصول الإسلام الثابتة، بل هو المغزى الأوحد لإرسال الرسل وإنزال الوحي وسن التكاليف الشرعية والهضبة الأعلى من تخوم المقدس.
  • بالإضافة إلى التطبيقات المنحرفة المستوحاة من هذا الحديث، سواء بالتصريح أو التلميح، والتي تؤدي إلى الإيهام بمشروعية ظلم الحاكم للرعية، وحماية هذا الظلم بنصوص الشريعة من خلال تكرار هذا الجزء من الحديث عل الدوام، وبتفسير محدد، مع إغفال النصوص الأخرى التي تحرّم على الأمة (حكّامًا ومحكومين) الظلمَ والعداون والتعاون عليه، وتوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن النفس والموت دون المال والعرض، ونحو ذلك.
  • وأيضًا بعض الاجتهادات أو تفسيرها المُحرّف فيما يتعلق بما يُباح للحاكم لضبط الأمن، ومن ذلك ما نسب إلى الإمام مالك ظلمًا أن للحاكم أن يضحّي بثلث الأمة لاستصلاح الثلثين الباقيين، أي في سبيل فرض الأمن والأمان، وهذا أمر منافٍ لأصول الشريعة ومبادئها الثابتة التي تحرم قتل نفس واحدة معصومة من الأمة كلها، وتكرم لحية الإمام مالك رحمه الله من أن يقول بهذا القول المتهور.
  • التركيز عند ذكر أنواع السُّلطة الشرعية على نوع الحاكم المتغلب، وحشد الأدلة والأقوال على وجوب طاعته درءًا لمفسدة مقاومته، وتحقيقًا لهدف الأمن والأمان، ثم السكوت عن ما سوى ذلك من أحكام متعلقة مثل: حكم تعدد الولاة أو حكم التعاون على الإثم والعدوان أو منع الصلاة أو الزكاة أونحو ذلك، وكأن هذه الصفة هي الصفة الوحيدة للولاية الشرعية، وليست حكم ضرورة طارئ مؤقت يجب على الأمة العمل على إصلاحه فوراً.
د. عبدالله السالم
د. عبدالله السالم
شاعر ناقد مدون من قطر

اترك لي أثرك