ثورة الكتاب الرقمي – عبدالله السالم

الكتاب الورقي وداعاً

ثورة الكتاب الرقمي الإلكتروني

مهما قرأت وستقرأ من تفضيل الكتاب الورقي على الكتاب الرقمي (الكتاب الإلكتروني) فإنه من باب ميل الإنسان إلى ما اعتاد عليه فقط.

ليس في الأمر أسرار دفينة ولا طاقة كامنة ولا تفاعلات خفية بين الأعصاب والورق، ولا شيء من البراهين العلمية المقنعة.

الحكاية كلها: إني قد ألفت هذا فهو أقرب إلى قلبي، و”لكل امرئ من دهره ما تعودا”، ولكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي: قيام ثورة الكتاب الرقمي أو الكتاب الإلكتروني -في رواية أخرى- هذه الأيام.

المستقبل الرقمي الوشيك

إن لم يأتِ يوم القيامة قريباً وإلا فالبشرية مقبلة على عصر رقمي لم تعرف له نظيراً من قبل، وما ثورة الكتاب الرقمي إلا أقل مظاهر رقميته ورقمنة الإنسان فيه، بل آلية القراءة العادية ستكون من مخلفات هذا العصر، إذ ستكون القراءة والوعي بأكمله عملية سريعة مخفية متصلة مباشرة بالدماغ، من خلال الموصلات المختلفة، دون الحاجة إلى المرور بالحواس.

سوق الهندسة الدقيقة محتدم الآن بين الشركات الكبرى في سباق محموم لغزو الدماغ واحتلال العقل البشري. ولكن دعونا من سيناريوهات هذا المستقبل المرعب، ولنتحدث قليلاً عن الكتاب الرقمي ومستوياته الرقمية.

الكتاب الرقمي البسيط

قد لا يكون في الكتاب الرقمي من الرقمية سوى كون القارئ يقرؤه على شاشة ما، ويكون الكتاب في هذا المستوى مجرد نصوص مكتوبة لا أكثر، وبهذا لا تختلف عنها كما لو كانت مكتوبة على الورق أو الجدران أو الجلد أو العظام أو أي وسيلة أخرى من الوسائل التي عرفها الإنسان.

والرقمية في هذا المستوى يقصد بها تحويل الكتاب إلى صيغة رقمية تجعله ظاهراً على الشاشة وقابلاً للقراءة، وهذا مستوى بسيط لا يمنح الكتاب الرقمي مزيد فضل على الكتاب الورقي.

ويمثل هذه الفئة الكتب القديمة المصورة والمصدرة بصيغة pdf وأشباهها، فهي نصوص مقروءة فقط، القارئ لا يملك سوى قراءتها كما هو مصمم مسبقاً، من حيث حجم الخط ونوعه ولونه وغير ذلك.

الكتاب الرقمي المتجاوب

وهو مستوى جديد أتاح للقارئ أن يتحكم بخط الكتاب كما يشاء، تكبيراً وتصغيراً، دون أن تخرج أطراف الكتاب عن حدود الشاشة، وكذا له أن يغير نوع الخط ولونه كما يشاء، ويضيف تعليقات وعلامات في جسد الكتاب كما يشاء.

وهذا الدلع جاء مع ظهور قوارئ الكتب الرقمية، من الأجهزة والتطبيقات، مثل قارئ كندل من أمازون، وقارئ جوجل وما تلا ذلك من أجهزة وتطبيقات مشابهة. والغالب في هذه الفئة أن تكون بصيغة epub الرقمية المعروفة.

ومع أن هذه الأجهزة والتطبيقات، بل ما قبلها وهو صيغة pdf تتيح للكاتب أن يضمن كتابه أكثر من مجرد النصوص، كالروابط التشعبية والصور والنوافذ المنبثقة. خصوصاً في جيل epub3، إلا أن الكتّاب -وأنا منهم- كانوا في بداية التجربة، وما يزالون مرتبطين بهيئة الكتاب القديم، الكتاب الذي يركز على النص فقط.

الكتاب الرقمي التفاعلي (interactive)

وهذا هو المستوى الذي يجعل الكتاب الإلكتروني متفوقاً بمراحل على الكتاب الورقي، وهو الذي يحقق مفهوم ثورة الكتاب الرقمي حقاً.

إذ بالإضافة لقدرات الكتاب الرقمي المتجاوب سابق الذكر، يمتلك الكتاب الإلكتروني التفاعلي في هذا المستوى مزايا تزيد على مجرد القابلية للقراءة واللعب بالخط.

ومن ذلك القدرة على الحركة والتفاعل من خلال الروابط التشعبية والصور والأصوات ومقاطع الفيديو والمشاركة التفاعلية مع القراء، ولا ندري ماذا أيضاً في المستقبل، فقد يكون قادراً على أخذ القارئ عبر تقنية ما لزمن ومكان محتوى الكتاب.

تجربتي مع الكتب الرقمية

قمت بتأليف ونشر كتابيين رقميين، أحدهما: عيوب الشعر، دراسة نقدية في بناء القصيدة النبطية المعاصرة، وهو كتاب طبعته وزارة الثقافة القطرية أول مرة، ونشرته أنا الآن بصيغة كتاب رقمي بعد إضافة العديد من المؤشرات الرقمية إليه، وهو منشور أيضاً في أمازون، وقد أنشره ورقياً في إحدى المطابع التقليدية.

والثاني: كتاب الجماعات الإسلامية المعاصرة، حقائق وافتراءت، وهو أيضاً كتاب رقمي يحتوي على العديد من الروابط التشعبية في ثناياه، لكني لم أزوده بالصور بالرغم من مناسبة ذلك، حيث يتناول ذكر العديد من الشخصيات البارزة في الجماعات الإسلامية المعاصرة، والتي كان من المناسب إبراز صورها. وقد اعالج هذا التقصير في المستقبل، والكتاب منشور على أمازون أيضاً.

لم أفعل هذا تماشياً مع ثورة الكتاب الرقمي وإنما لأنني منذ سنوات طويلة وأنا أنشر إنتاجي الأدبي والفكري رقمياً في مدونتي هذه، وبالتالي لم يكن تأليف الكتاب الرقمي عندي إلا مجرد كتابة تدوينة طويلة.

متطلبات الكتابة والنشر الرقمي

الأمر ليس بعسير، ولا حتى قريب من ذلك، ولكنه ليس ببساطة الكتابة التقليدية، فالكتابة التقليدية يكتفي الكاتب فيها بكتابة أفكاره، بل قد لا يقوم بهذه المهمة، فقد يكون هناك من يكتبها عنه وهو يمليها فقط.

أما في الكتابة الرقمية فعلى الكاتب أن يكتب، وأن ينتبه للكلمات التي يكتبها فإنها قد تكون مواطن مناسبة تأخذ القارئ لأماكن أخرى للتمثيل أو لمزيد من التوضيح، تماماً كفكرة الهوامش التي يقول فيها الكاتب كلاماً إضافياً يوشوش به في أذن القارئ دون أن يزعجه به في المتن.

كما يمكن أن يدعم ما يقوله بالصور والأصوات والشروحات والرسومات ومقاطع الفيديو والإحالات المتنوعة للاستشهاد والاحتجاج، فبدلاً من أي يزعم بأن الشخص الفلاني أو الرئيس العلاني أو أعضاء الجماعة الإسلامية الفلانية فعلوا كذا أو قالوا كذا أو يرون كذا، يحيل رأساً إلى مقابلاتهم ومقالاتهم، بل هم أنفسهم صوتاً وصورةً وهم متلبسين بما يصفهم به.

كما يمكن أن يكون الكتاب تفاعلياً بين الكاتب والقارئ، إذا يكون القارئ جزءاً رئيساً في الكتاب بالمشاركة أو التحرير.

ثم يحرر هذا المحتوى بواسطة وسائل مخصصة للكتابة الرقمية، يأتي في مقدمتها من حيث البساطة Microsoft Word ومحررات النصوص المماثلة، ثم يتطور الأمر صعوداً إلى البرمجيات المتخصصة، مثل InDesign ونحوه، كما أن هناك برمجيات ومواقع حديثة تقدم هذه الخدمات.

وبعد أن ينشئ الكاتب المحتوى الرقمي المطلوب بالوسائل المخصصة للكتابة الرقمية يقوم بنشره بوسائل ومواقع مخصصة أيضاً للنشر الرقمي، ومن ذلك النشر على قارئات المحتوى الرقمي المختلفة، مثل amazon kindle، أو google play أو بالنشر مباشرة على الموقع الإلكتروني للكاتب كما أفعل.

كما أن للمؤلف حرية أكبر، تصل إلى الحرية الكاملة في تحديد سعر بيع كتابه، أو حتى نشره مجاناً، دون أن يوجع رأسه الطابع أو الناشر أو الموزع.

وبدلاً من نشر الكتاب على مدى محدود فإنه يمكن للمؤلف أن ينشر كتابه الرقمي في كوكب الأرض كله، بلا حدود ولا قيود. إنها ثورة الكتاب الرقمي لا دار حسب الله للنشر والتوزيع.

الكتاب الرقمي العربي

ما يزال الكتاب الرقمي العربي -في مرحلتيْ الكتابة والنشر- يواجه العديد من العقبات، فالبرمجيات المخصصة للكتابة الرقمية ليست مهيأة في الغالب للغة العربية، وبعض الخاصيات لا تعمل، أو تعمل بصعوبة وبطرق ملتوية، مثل تضمين الروابط التشعبية في الهوامش، ونحو ذلك.

وفي مرحلة النشر الرقمي أيضاً، يواجه الكاتب العربي العديد من العراقيل والصعوبات لأسباب مختلفة، فمثلاً لم تتح أمازون كيندل استقبال الكتب العربية إلا منذ عهد قريب، وحتى بعد إتاحتها للكتاب العربي فإنها إلى الآن تحصر الاهتمام -من حيث الانتشار واعتماد العملة النقدية- بـ 7 دول أجنبية، لا يوجد فيها دولة أو لغة عربية. وفي مسألة دفعات المبيعات ايضاً ثمة صعوبات ومحدودية للخيارات.

وكذلك تفعل جوجل بلاي، إذ تقصر إمكانية النشر ضمن خدمتها على النزر القليل من البلدان العربية، تبعاً للبنوك التي تتعامل معها.

ولكن كل هذه العقبات ستزول يوماً ما.

المستقبل للكتاب الإلكتروني

على الكتّاب الجادّين -كلٌ في مجاله- سرعة الاتجاه لهذا المنحى، وذلك أن العصر الرقمي يسير نحو وجهته كما يسير الطوفان، ولا أحد يستطيع مجابهته وردّه، فما علينا إلا تعلم ركوب الموج، وإذا تقاعس الكتاب الحقيقيون عن الحضور في المشهد الرقمي فإن العصر سيكمل سيره، ولكن بإحلال كتّاب رقميين صغار مكانهم، كتّاب مزيفين أو موجهين، ولن يجد النشء الرقمي أمامه إلا هذه المنتجات الفكرية الملوثة، التي تعلي من شأن التفاهة، والمزيد من التفاهة، ووسائل النجاح في التفاهة. وستصبح ثورة الكتاب الرقمي مثل أي ثورة من ثورات الربيع العربي، يتم وأدها في المهد، أو تشويهها في اللحد.

د. عبدالله السالم
د. عبدالله السالم
شاعر ناقد مدون من قطر

1 تعليق

  1. يقول فريد:

    الكتاب الرقمي نعمة كبيرة صراحة، ولكن مازلت اعتقد من وجهة نظري انه لن يصل الى الغاء الكتاب الورقي وإن كان يأكل من صحنه الآن، وذلك بسبب ان كلاهما يلبي حاحيات مختلفة في بعض الجوانب عن الآخر. إذ ما يزال للكتاب الورقي انصاره خصوصا بسبب تجربة القراءة عليه والتي يقولون عنها انها قراءة بالكيان كله، لمسا وشما وتقليبا وخربشة وطيا الى غير ذلك من الاحاسيس التي تمنح حميمية قد لا يوفرها الكتاب الرقمي. ولكن كامكانيات فالرقمي يواصل اتكتساحه صراحة..

اترك لي أثرك