هناك من يؤمن بنظرية المؤامرة قليلاً أو كثيراً، وهناك من ينفي نظرية المؤامرة قليلاً أو كثيراً، ومؤخراً أصبح لدينا من يؤمن أن ثمة مؤامرة في نفي نظرية المؤامرة لأن الاستماتة في نفيها أصبح مثيراً للريبة، ومن يقرأ ويسمع كمية الأوصاف الانتقاصية لمن يظن أن هناك مؤامرة في العالم، تصل إلى درجة التشكيك في قواه العقلية، وحالته النفسية، سيشك أو يتأكد أن هناك بالفعل مؤامرة لنفي المؤامرة، وبطتنا بطت بطتكم.
هناك كيانات، أو مجموعات من الأشخاص الأقوياء بالسلطة والوجاهة والمال يخططون سراً، فرادى أو مجتمعين، على تواصل مباشر أو ليس كذلك، لإبقاء الأمور على ما هي عليه، لمصالحهم الشخصية، أي لبقائهم أقوياء بالسلطة والوجاهة والمال.
ما الأمر المريب في هذا التفكير؟ ولماذا لا يمكن أن يصدر إلا من شخص مريض مختل فاشل محبط؟
الحياة تجري أمامنا كل يوم على هذا المنوال، رؤساء الدول والوزراء وقادة العسكر ومدراء الإدارات ورؤساء الأقسام والوحدات والشركات، بل وبعض أفراد الأسرة في البيت الواحد، كل منهم يبحث عن مصلحته الشخصية أولاً، بإزاحة الآخرين في الطريق، حسب معطيات الواقع وما تسمح به القوانين.
والإنسان إن لم يكن لديه وازع أو رادع ديني أو خلقي أو قانوني، يتحول إلى سبع مفترس، إلا أنه سبع تحت ثياب أنيقة، ويبتسم أمام الكاميرات.
وعصرنا المادي يؤجج هذه الروح السبعية في الإنسان كما نرى اليوم، بل أصبحت هي معيار النجاح والتفاضل بين الناس، وربما ستضاف إلى نقاط وصف الشخصية في أوراق السيرة الذاتية، كم رأساً أطحت بها وأنت في طريقك لشغل هذا المنصب أو ذاك؟
وإذا كان هناك أشخاص يبالغون في التوهم بوجود أحداث أو أشخاص أو خطط تستهدفهم أو تستهدف عالمهم، فمبالغتهم المرضية لا تنفي حقيقة وجود أصل المسألة، وهو أن هناك كيانات، أو مجموعات من الأشخاص الأقوياء بالسلطة والوجاهة والمال يخططون سراً، فرادى أو مجتمعين، على تواصل مباشر أو ليس كذلك، لإبقاء الأمور على ما هي عليه، لمصالحهم الشخصية، أي لبقائهم أقوياء بالسلطة والوجاهة والمال.
هناك أيضاً أشخاص يتوهمون ليلاً أن النمل يمشي على أطرافهم، أو أن في الغرفة صراصير أو فئران أو عقارب، رهابهم المرضي لا ينفي وجود النمل والصراصير والفئران والعقارب في الخارج.
كما أنه لا ينفي وجود براغيث أو فايروسات في الغرفة، بمعنى: مبالغتهم في توهم وجود أشياء، لا ينفي وجودها في أماكن أخرى، أو وجود غيرها في نفس المكان.
يختلف الناس حسب الزمان والمكان ومجريات الأحداث والاستعداد العقلي والعمر والانتباه لما يحيط بهم من مؤامرات، وبالتالي تختلف مواضيع المؤامرات التي تشغل بالهم.
إلا أنه يمكن ذكر بعض المواضيع الشائعة التي تُطرق دوماً عند الحديث عن نظرية المؤامرة.
يؤمن المسلمون في الغالب بوجود أعداء للدين الإسلامي، يحاربونه في العلن ويتآمرون عليه في الخفاء، وهذا الشعور ناتج عن وقائع حقيقية منذ بداية التاريخ الإسلامي إلى يومنا هذا، والفرق بين الدين الإسلامي وبين الأديان الأخرى في هذه المسألة أنه يعلن حربه على أعدائه بشكل ظاهر لا عن طريق المؤامرات والدسائس، بدءاً بالإنكار القولي وانتهاء بالجهاد الإسلامي.
أما الأديان الأخرى، وأبرزها وأكثرها انتشاراً النصرانية، فهي لا تعلن هذا من منطلق ديني، لأن الدين لا يسعفها بذلك، لذا تلجأ إلى المكائد والمؤامرات.
وقد أسفرت النصرانية عن وجهها المعادي للمسلمين في حروب ضخمة متكررة تسمى الحملات الصليبية، وبعد أن سقطت الخلافة الإسلامية منذ بداية القرن العشرين، تحولت الحروب الصليبية إلى أشكال أخرى غير عسكرية، مثل الغزو الفكري والهيمنة السياسية والاختراق الثقافي والإعلامي، ونحو ذلك، مما يتطلب المزيد من المؤامرات والمكائد والدسائس الخفية.
والملاحظ على جماعة نفي نظرية المؤامرة من المسلمين أنفسهم يكررون القول إن العالم وردي جميل، ولا يوجد به عداوات من هذا القبيل، وإنك أيها المسلم لا أحد يعاديك لدينك، ولا يوجد من يعادي الإسلام، ويتم العزف على إسطوانة: العالم ما درى عنك، ولست محور الكون. ويختمونها بقول الشاعر:
ما راقبوك، ولكن أنت منفعلٌ
يا محورَ الكونِ، إنًّ الكونَ مشغولُ
من المواضيع الشهيرة في نظرية المؤامرة التي يؤمن بها الكثير من الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومشاربهم، فكرة وجود يد خفية تسيطر على العالم وتحركه، أو تسعى إلى ذلك.
ونحن المسلمون، وكذا بقية الموحدين من الأديان الأخرى، نؤمن أن ثمة يد خفية تحكم العالم ضمن خطة مرسومة، هذه اليد هي يد الله سبحانه وتعالى، والخطة هي القدر.
ومن هنا عندما يلمز مروّجو فكرة نفي نظرية المؤامرة خصومهم من المؤمنين بها، يذكرون عبارات من قبيل: أنهم أشخاص يتوهمون أن للكون مصمم، وأن الأحداث تجري حسب خطة، وهذا من صميم العقيدة الإسلامية، والدينية عموماً.
فكأن مروجي نظرية نفي نظرية المؤامرة ينطلقون من الفكرة الداروينية الإلحادية، التي تقول إن الحياة تجري عشوائياً حسب نظرية التطور والارتقاء الطبيعي، مع أن الكثير من محققي نظرية التطور قد تراجعوا عن القول بعشوائية الحياة، وأثبتوا النظرية الجديدة المعدلة لنظرية التطور العشوائي، وهي نظرية التصميم الذكي، منهم على سبيل المثال لا الحصر: مايكل بيهي الذي ألف كتاب: صندوق داروين الأسود، تحدي الكيمياء الحيوية لنظرية التطور، وأيضاً: وليام ديمبسكي وجوناثان ويلز، في كتابهما: تصميم الحياة، اكتشاف علامات الذكاء في النظم البيولوجية، وكذا الفيلسوف البريطاني أنطوني فلو الذي تراجع عن إلحاده وألف كتابه: هناك إله، وغيرهم.
أما على مستوى المخلوقين فنحن المؤمنون من أتباع الديانات السماوية الثلاث على الأقل، نؤمن أن هناك مخلوقات أخرى تؤثر على سير الحياة ونتائجها، مثل الملائكة والشياطين والجن، ونحو ذلك. أما كوننا لم نعرف بعد آلية ذلك، فهذا لا ينفي أصل المسألة، وهذا يشبه لو أن طبيباً خارقاً كان يخبر الناس قبل 200 سنة أن سبب أمراضهم وانتقال العدوى بينهم هي الفايروسات، والعلم التجريبي في ذلك العصر لم يكتشف الفايروسات بعد.
وعلى مستوى المخلوقين من البشر، فهناك عدة عناوين تبرز دوماً عند الحديث عن اليد الخفية التي تحرك العالم، أو على الأقل العالم الحديث، مثل الجمعيات السرية وبعض العائلات الثرية، ومن ذلك:
الماسونية Masonry أو البناؤون الأحرار Freemasonry أو المتنورون Illuminati كلها تشير إلى نفس المنظمة، وهي منظمة سرية ذات طقوس غامضة وعضويات خاصة وتاريخ حافل بالمكائد والتأثير والغموض.
ويزعم البعض أن هدف الماسونية هو السيطرة على العالم عن طريق تقويض الأديان، وتحطيم الرموز، وتفكيك الهويات، وهدم الحكومات، وبث النزعة الثورية المتمردة على كل شيء.
والسمات البارزة لحركة الماسونية معاداة الأديان، والنزوع إلى الإلحاد والعلمانية والمادية والشهوانية، وهذه أبرز سمات النظام العالمي الجديد اليوم الذي يقال إنه صنيعة الماسونية.
ويهوّن الدكتور عبد الوهاب المسيري من الهالة المتوهمة عن الماسونية، ويرى أنها مثل حركات فكرية أخرى، بدأت طبيعية ومرت بتغيرات وتطورات، واستغلت أحياناً من قبل بعض منظمات الجريمة كالمافيا الإيطالية، للقيام بأدوار ليست من صميم خطتها[1].
الحركة الصهيونية العالمية حركة ذات طابع سياسي، إلا أن لها بعداً عقدياً يتعلق بفكرة عودة اليهود إلى الأرض الموعودة في فلسطين المحتلة، وثمة أدبيات وأساطير كثيرة عن إعادة بناء هيكل سليمان، وحرب هرمجدون، وأحداث آخر الزمان.
وقد انتشرت في بداية القرن العشرين مذكرات غريبة تسمى بروتكولات حكماء صهيون، تتحدث عن خطة محكمة للسيطرة على العالم بطرق ووسائل عدائية شريرة.
كثيراً ما يرد اسم عائلتين ثريتين عند الحديث عن نظرية المؤامرة ولواحقها، وهما: عائلة روتشيلد اليهودية الأوروبية، وعائلة روكفلر المسيحية الأمريكية. وهما عائلتان ثريتان ثراء فاحشاً إلى درجة التدخل في سياسات بعض الدول وتمويلها وإقراضها والتحكم بها.
وقد تولت عائلة روتشيلد مهمة استصدار وعد بلفور القاضي بمنح أرض فلسطين لليهود من قبل بريطانيا، مقابل تقديم مساعدة مالية ضخمة للدولة، وقامت العائلة بدفع تكاليف المهمة، وأنشأت الوكالة اليهودية، ومولت المشاريع الاقتصادية في فلسطين، ومنها مبنى الكنيست الإسرائيلي الحالي في القدس.
وقامت عائلة روكفلر في الولايات المتحدة الأمريكية بأعمال مشابهة في العالم، من ذلك: التبرع للأمم المتحدة بشراء أرض مقرها الرئيسي في مدينة نيويورك سنة 1949م، بقيمة 8.5 مليون دولار.
تطرح نوادي الرتاوري الدولية (Rotary International) ونوادي ليونز الدولية (Lions Clubs International) نفسها على أنها منظمات مجتمعية تطوعية لخدمة البشرية.
لكنه يحيط بها الكثير من الغموض والسرية، بدءاً بآلية العضوية فيها، فهي مثل الماسونية لا تقبل طلبات العضوية، وإنما هي التي تقدمها للأشخاص بعد متابعة ودراسة لتفاصيل حياتهم ووضعهم الاجتماعي.
ومن المثير للريبة هذا الإصرار الغريب على الانتشار حول العالم بالرغم من قلة العائدات الظاهرية، فمثلا نادي الروتاري له قرابة 32 ألف فرع حول العالم في 200 بلد وبعضوية 1.2 مليون عضواً. بمعدل متوسط 37.5 عضواً في كل فرع!
هل يعقل أن ينشأ فرع في بلد أو مدينة، بما في ذلك من تكاليف واستئجار مقار ومعاملات قانونية وأصول ومكاتب وموظفين، لأجل 37 عضواً أو أقل؟
وكذا نادي الليونز لديه أكثر من 45 ألف فرع حول العالم في 203 بلد، وبعضوية قرابة 1.3 مليون شخص فقط! أي بمعدل 29 عضواً في الفرع الواحد.
جدير بالذكر، أن هذه النوادي الاجتماعية المسالمة البريئة كانت من ضمن الكيانات السياسية والاجتماعية المكونة لدستور الأمم المتحدة، في اجتماع تأسيس المنظمة سنة 1945م، هذه المنظمة التي تعتبر النسخة المعدلة من عصبة الأمم، وهي عصبة الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ثم انضمت لها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية وترأستها.
يرى وليام غاي كار[2] أن القائد الخفي خلف كل الحركات السرية الهدامة، هو الشيطان نفسه، وبشكل حقيقي لا مجازي، وأن بروتوكولات حكماء صهيون هي بروتوكولات مذهب عبادة الشيطان وهي قديمة جداً، قبل أن يسمع أحد باسم صهيون من قبل.
وما النورانيون والماسونية وأشباهها إلا أدوات بشرية متغيرة لكنيس الشيطان الذي يخطط جدياً للظهور لقرب نهاية العالم.
وقد كثرت هذه الأيام الأعمال الدرامية والسينمائية التي تمجد الشيطان أو تروج لخفة دمه ووسامته وتفهم ظروفه.
والقرآن قد أخبرنا بصريح العبارة أن الشيطان مخلوق حقيقي، وأنه عدو لآدم وذريته، وأنه يخطط منذ قصة عصيانه للكيد للبشرية وإغوائهم وجرهم إلى طريق الشر، بل ليس لديه من المهام في حياته إلا هذه.
وبما أنه مخلوق استثنائي خارق، فبالتأكيد لديه من القدرات الاستثنائية ما يجعله يحقق خطته القديمة بأساليب خفية على البشر. وهذا موضوع طويل قد أفرد له مقالة طويلة في المستقبل.
يتم الزج دوماً ببعض القضايا الفرعية على أنها القضايا الأبرز عند القائلين بنظرية المؤامرة، مثل الأطباق الطائرة، والأرض المجوفة، والأرض المسطحة، وإنكار الهبوط على القمر، واتهام التطعيمات الطبية، وغير ذلك.
والسمة الغالبة على مروجي نفي نظرية المؤامرة سوْق هذه القضايا باستهزاء تام، وكأن الواحد منهم هو الذي هبط على القمر بنفسه، واخترع لقاح التطعيمات كلها، واخترق باطن الأرض، وسافر إلى مجرات الكون، لينفي وجود أطباق طائرة، أو شياطين أو ملائكة أو مخلوقات فضائية.
على أن بعض هذه القضايا لا يزال ميداناً خصباً للبحوث والاكتشافات العلمية الجادة، بعيداً عن نزعة الرفض والاستهزاء.
ومنشأ الرفض والاستهزاء عند الأكثرية هو مبدأ الصوابية الذي نفخته عملية رقمنة الإنسان المعاصر، ومن ذلك، الإيمان المطلق بالقدرات البشرية العلمية، وأن العلم الإنساني قد بلغ مبلغاً يستطيع فيه تفسير كل شيء في الكون، أما ما لم يحط به العلم التجريبي حتى الآن، فيطلق عليه وصف العلوم الزائفة، ومن ذلك قضايا الغيب والإيمان والنصوص الدينية.
كما يزج أيضاً في نظرية المؤامرة ببعض المواضيع البعيدة جداً عن الواقع أو الواقعية، أما لهدف مؤامراتي مركب، أو لحجم الانهزام النفسي واليأس عند القائلين بذلك، ومن هذه المواضيع: القول بأن ثورات الربيع العربي خطة أمريكية، وأن داعش أو تنظيم القاعدة صنيعة أمريكا، وأن إيران وإسرائيل وجهان لعملة واحدة، وأن المخابرات (في كل بلد) تسمع وترى وتعرف كل شيء، وأن عبدالله السالم ليس بفارس بطل شاعر قطري وسيم.
أن يعترض معترض على مبالغة البعض في توهم الأشياء، وربط الأحداث، وسوء الظن في الحكومات والأنظمة مثلاً، فاعتراضه اعتراض مقبول ولا يعد مؤامرة، إنما المؤامرة حين تتضافر سمات معينة ومكررة في مادة الاعتراض، ومن ذلك:
يشيد الكثير من أنصار نفي نظرية المؤامرة المقدسين للعلم التجريبي بمبدأ الشك العلمي في المجالات العلمية والفكرية الأخرى، ومن ذلك يطالبون بعرض الأفكار والمعتقدات المقررة مسبقاً، على طاولة التجربة والفحص التطبيقي، وتحويلها إلى فرضيات.
لكنهم عندما يأتون إلى نظرية المؤامرة ينسفون هذا المبدأ بتطرف مبالغ فيه، وكأنهم يمتلكون براهين علمية تدحض هذه النظرية، بينما كل ما لديهم أنهم لا يمتلكون براهين علمية تؤكد النظرية، والجهل ليس بعلم، وانتفاء الدليل ليس بدليل.
تتضمن أقوال الكثير من أنصار نفي نظرية المؤامرة على مفردات وأوصاف انتقاصية للقائلين بنظرية المؤامرة، تتحول أحياناً إلى اتهامات لسلامة العقل والاستقرار النفسي، وتربط بين الإيمان بنظرية المؤامرة وبين توهم رؤية الأشباح والحشرات وبقية أعراض الأمراض الذهانية.
يقول جلال أمين عن الرمي بنظرية المؤامرة: “هو وصف ثبتت فعاليته في إسكات أكثر الناس شجاعة، وتسخيف أقوى الناس حجة، إذ إنه يحمل معنى يتجاوز بكثير مجرد الاتهام بالخطأ في التحليل أو التسرع في الحكم، وينطوي على اتهام بالهلوسة والاستسلام للخيالات والأوهام.. لم يجد بعض الكتاب طريقة أخرى للتعبير عن شكوكهم من دون التعرض لاتهام نظرية المؤامرة إلا الاستعاضة عن كتابة التحليلات السياسية بكتابة قصة أو رواية خيالية يضع فيها الكاتب كل ما يعتقد في وجوده بالفعل، من مخططات شيطانية ومؤامرات”[3]، ومن ذلك حسب ظني، رواية 1948 للكاتب البريطاني جورج أورويل.
أيضاً من علامات المؤامرة في نفي المؤامرة، أن تصدر الادعاءات ببساطة العالم وعشوائية أحداثه وعدم ترابطها، وأن كل شيء يحدث بحسن نية، عن طريق الصدفة، الحروب والاتفاقيات المجحفة وجشع الرأسمالية وبروز أشخاص وجماعات وتيارات غريبة عن المجتمعات الطبيعية بدعم سخي خفي، أن يصدر كل هذا عن أشخاص أذكياء متعلمين مثقفين، يفترض أن لديهم الحد الأدنى من الرؤية النقدية الفاحصة لما حولهم.
فيما تناسب هذه الادعاءات التسطيحية رؤية راعي غنم بسيط يعتزل العالم في شعب من الشعاب، ولا يدري ماذا يدور حوله.
يشخّص القائلون بنفي نظرية المؤامرة حالة خصومهم بأنها تصدر من أشخاص لا بد أنهم يتصفون بمجموعة من الأوصاف النمطية، منها:
وأغلب سكان الكوكب يتصفون بهذا الوصف، إلا أن كل شخص أو جماعة يظنون أن مناطقهم هي الأكثر استبداداً، بل إن كثير من سكان أمريكا وأوروبا باتوا يتشككون في مدى مصداقية الديمقراطية في بلدانهم، ويرون أن الديمقراطية تحولت إلى مظهر كاذب، تندس وراءه الدولة العميقة التي يستبد بها منذ أمد طويل، بضعة أشخاص من نخبة الأثرياء والساسة، من خلال ما يسمى بهندسة الوعي[4].
وبالتالي، فإن من سيقرأ أن من الأوصاف النمطية لأصحاب نظرية المؤامرة هذا الوصف، سيعيد التفكير، ويتهم نفسه أنه حالة نادرة على عكس بقية البشر، فيما أكثرية البشر يفكرون مثله.
وفي عصرنا المادي الذي قصر مفهوم النجاح على اختراع جوجل أو فيسبوك أو أوبر، سيظن كل واحد من الناس سوى لاري بيج ورفاقه، أنه بالفعل يعد في خانة الفاشلين، أو على الأقل أن لديه طموحات لم يستطع تحقيقها، وبالتالي فتفكيره بهذه الطريقة المؤامراتية مرتبط بحالته الخاصة، وشعوره بالنقمة على العالم.
وهذا الوصف يطلق بطريقة مبطنة على المؤمنين في مقابل الملاحدة، وذلك أن الملاحدة يتهمون المؤمنين أنهم يقدّمون الإيمان على العلم، والحقيقة أن هذه فرية لا أساس لها من الصحة، وكل ما في الأمر أن المؤمنين يقدمون الإيمان على ما لم يأت العلم بمناقضته، ومن ذلك الإيمان بالإله والملائكة والغيب والجنة والنار والبعث بعد الموت.
وكل هذه قضايا ميتافيزيقية تختص بعالم ما وراء الطبيعة، لم يصل العلم الطبيعي إلى مجرد الاقتراب منها، وبالتالي لا يملك أدلة على نفيها، بل لم يفسر العلم الطبيعي التجريبي ما هو أقرب منها، مثل الإدراك الإنساني، وأسس الرياضيات، وغير ذلك.
ويدخل في هذا الوصف قرابة 85% من سكان الكوكب، حيث إن الملاحدة يشكلون حسب الإحصاءات الأخيرة -بالرغم من عدم تسليمي بها- ما نسبته 16% من العالم.
فهذه التحليلات التشخيصية تنتهج المراوغة واللؤم في توصيف الحالة المعروضة للدراسة.
الركن الأساسي للمؤامرة هو التخفي والخفاء، ومن هنا فإن مطالبة المرء بدليل على ظهور شيء خفي بطبيعته، هو ضرب من التعجيز والسفسطة.
وخفاء الشيء لا يعني عدم وجوده، كما أن خفاءه على 99 شخصاً لا يلغي ظهوره عند شخص واحد، حتى لو حكموا عليه بعدم الوجود أو عدم الثبوت.
وهناك في مجال القضاء ما يسمى بالقرائن، وهي أقل رتبة من الأدلة، لكنها إذا تضافرت عند قاضٍ حكم بها، بما يملي عليه اجتهاده.
فإذا تآمر مجموعة من القتلة على ذبح شيخ القرية، وحدث الأمر كما خطط له، فجاء شخص وقال: أنا رأيتهم قد اجتمعوا ليلة الجريمة في بيت فلان، أحدهم، وقال آخر: أنا سمعت أحدهم ذات مرة يتوعد شيخ القرية بالقتل، وقال آخر: اشترى مني أحدهم سكيناً، وقال آخر شيئاً آخر، وكان لدينا في النتيجة شيخ قرية مذبوح بسكين، ومجموعة من الأشخاص ذوي السوابق الإجرامية، فإن من الطبيعي لكل ذي عقل سليم أن يتهم هؤلاء ابتداءً.
وكل من سينفي هذه التهمة بتطرفٍ ملفت للانتباه، وبلا أدلة، بل لمجرد عدم وجود أدلة، ويطالب بعدم الشك والبحث والتحري، فهو متهم أيضاً بأنه شريك في الجريمة.
وفي النهاية: هناك من يتخذ من دعوى وجود المؤامرة ضده أو ضد بلده أو دينه أو ثقافته، مبرراً للكسل والتواكل واليأس وعدم العمل، وربما الجريمة أحياناً، ومثل هؤلاء لو لم يجدوا أمامهم دعوى المؤامرة لاتخذوا من مسألة ثقب الأوزون والاحتباس الحراري وانقراض الديناصورات شماعة لفشلهم وأخطائهم.
الواجب على العاقل المتزن أن يعي ما يدور حوله، ولا يسيّر كالدابة، وأن يميز عدوه من صديقه، وأن يفهم آلية تدافع البشر في الأرض، ويترك مساحة للشر والخبث فيهم، وأن لا ينخدع بالشعارات الرومانسية الحالمة عن الحياة والبشر، ورغم ذلك، عليه أن يعمل ويجتهد ويبذل طاقته فيما يراه الحق والخير، ولو قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها.
[1] انظر: عبد الوهاب المسيري، اليد الخفية: ص118.
[2] انظر: وليام غاي كار، الشيطان أمير هذا العالم: ص139.
[3] جلال أمين، خرافة التقدم والتخلف: ص134.
[4] انظر حول هذا الموضوع، هربرت شيللر في كتابه: المتلاعبون بالعقول، ونعوم تشومسكي في أطروحاته ومقالاته وكتبه، منها على سبيل المثال: النظام العالمي القديم والجديد.
4 تعليقات
سلمت يداك
ماشاء الله مبدع مثلما ألفناك أخي عبد الله
في انتظار جديدك دوما
حياك الله أخي
أعتقد أن المؤامرة أحد مكونات سنة التدافع التي خلقها الله في هذا الوجود، فكما تكرمت التوسط مطلوب ووجود المؤامرات لم يتوقف ولن يتوقف والذي ينبغي أن يتغير هو نظرتنا لها وطريقة تعاملنا معها، شكرا لك استاذ عبد الله على التدوينة الرائعة
أهلا أخي أحمد..
ألهمني تعليقك بعض النواقص التي نسيت ذكرها، واستدركت ذلك.
شكراً لك.