أزمة المثقف الخليجي في مفهوم الوطنية والوطن - مدونة وسوم عبدالله السالم

أزمة المثقف الخليجي ومفهوم الوطنية

أزمة المثقف الخليجي مفهوم الوطنية دول الخليج

المثقف الخليجي , الوطنية , الوطن , حصار قطر , ازمة قطر

توطئة لأزمة المثقف الخليجي في مفهوم الوطنية

دول الخليج العربي دول ملكية وراثية لا شأن فيها لأفراد الشعب ولا النّخب الاجتماعية ولا المثقفين باختيار الحاكم أو محاسبته إن أخطأ أو حتى إن ظلم وجار، لعدم وجود قنوات قانونية مُتاحة لفعل ذلك، وهذه أول أسباب الخلل عند المثقف الخليجي في تحديد مفهوم الوطنية أو الوطن أو حتى الأمن الوطني.

لذا دأب المثقف الخليجي على الابتعاد عن الشأن السياسي في أطروحاته وبحوثه ونقاشاته الثقافية، واكتفى بالشأن الاجتماعي والأدبي والفني والديني والفكري.

بعد ثورات الربيع العربي 2011 والخلاف الخليجي بين قطر وشقيقاتها 2014 وحصار قطر 2017، ومع توفر وسائل التواصل الاجتماعي والتعبير، وجد المثقف الخليجي نفسه إزاء مواجهة جادة مع الواقع السياسي لاختبار مبادئه وقناعاته ومحصّلته المعرفية.

أحس المثقّف الخليجي بالارتباك الفكري أمام مجموعة من المبادئ والمطالب المتعارضة في الظاهر، مثل: الديمقراطية والوطنية، أو الليبرالية والإسلام السياسي، وغيرهما.

ولأنني عزمتُ قصر المقال على أزمة المثقّف الخليجي ومفهوم الوطنية فقط فسأكتفي بها، فما هي الوطنية؟

مفهوم الوطنية

الوطنية وصفٌ نبيل في الغالب يعني الوقوف مع الوطن وبذل الروح والمال والرأي في سبيل الذود عنه والحفاظ عليه، لكن المعضلة تأتي عند تفكيك مفهوم الوطنية على ماذا تستند؟

الوطنية وصفٌ مشتق من لفظة الوطن، بمعنى التفاني في الوقوف مع الوطن، إذن فكي نحدد مفهوم الوطنية يجب أولًا أن نحدد مفهوم الوطن.

مفهوم الوطن ومكوّناته

ما الوطن؟ هل هو وثيقة الجنسية التي يحملها الشخص؟ أو البلاد التي وُلد فيها؟ أو البلاد التي نشأ فيها؟ أو البلاد التي يقيم فيها مؤقتًا؟ أو البلاد التي استقر فيها مؤخرًا؟ أو البلاد التي يعلن انتماءه لها؟

كل هذه المكونات وغيرها تصنع مفهوم الوطن، لذا يمكننا القول أن وطن الشخص هو مجموعة مكونات البلد الذي يشمل محل ولادته ونشأته وجنسيته وعمله، وتاريخ وآثار أجداده وذكرياته وعائلته وأقاربه وأصدقائه ومدرسته وجامعته ودار عبادته وحيه، وعادات تلك البلد وقوانينه وحكومته وسكانه وشعاره واسمه وتاريخه، ومكتسباته الثقافية والعمرانية والتنموية.

وقد تنقص هذه المكونات وقد تتم من وطن لآخر ومن مواطن لآخر، فمثلًا وطن القبطي الذي يعيش في الأسكندرية أعمق من وطن الإسرائيلي (من أصول بولندية) الذي يعيش في إسرائيل أو الكندي (من أصول فلسطينية) الذي يعيش في كندا، فكيف إذا كان يقيم ويعمل في قطر منذ عشرين سنة؟
الأول لغياب عنصر الذاكرة الممتدة للمكان، والثاني لغياب المكان الذي يحمل ذاكرة ممتدة والثالث لغياب كليهما.

هذا من حيث عمق الوطن في جزئه المادي الثابت، الأرض والتاريخ والناس والذاكرة، أما حين نضيف إليه الجزء المعنوي المتغير كالقوانين والأعراف والسلطة من حيث جودتها ورداءتها، فسنجد أن مقياس الوطنية سيتغير قوة وضعفًا.

بمعنى أنه قد يكون الإسرائيلي المذكور أعلاه أكثر وطنيةً وحماسًا للدفاع عن الوطن من القبطي وذلك لوفرة وجودة الجانب المعنوي المتغير عند الإسرائيلي (جودة القوانين والتنمية ونجاح السلطة في تحقيق وظيفتها)  بعكس القبطي ولنفس الأسباب (رداءة القوانين والتنمية وفشل السلطة في تحقيق وظيفتها)، ومن هنا يعلن الإسرائيلي بفخر أنه مواطن إسرائيلي فيما يبحث القبطي عن بلد آخر يهاجر إليه ويترك وطنه ووطن أجداده منذ آلاف السنين.

والآن لنرجع إلى مفهوم الوطنية الذي عرّفناه سابقًا بأنه: الوقوف مع الوطن وبذل الروح والمال والرأي في سبيل حمايته والذود عنه والحفاظ عليه، فأيٌّ من مكونات الوطن التي مرت داخلة في هذا التعريف؟

الصورة المثالية أن كل مكونات الوطن -أيّ وطن- عناصر إيجابية ذات قيمة أخلاقية يجب الحفاظ عليها، ولكن في الواقع هذا لا يوجد إلا في المدينة الفاضلة أو القليل من النماذج النادرة من الأوطان في حقبٍ تاريخية متباعدة، ومن ذلك حقبة دولة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة.

وإذا كانت بعض المكونات المادية للوطن لا تقبل التنازل أبدًا كمكون الأرض أو السكان أو الممتلكات، فإن بعض المكونات المعنوية تقبل الأخذ والرد والنقد بل والمحاربة أيضًا إذا فقدت قيمتها الأخلاقية الإيجابية، وذلك مثل مكون العادات والثقافة والقوانين والسلطة الحاكمة، ومثال ذلك:

مكونات في مفهوم الوطنية قابلة للنقد والمعارضة والرفض

1- فساد القوانين: لمّا انتشر في قوم سيدنا شعيب عليه السلام فساد القوانين من خلال تقنين الغش في السوق بتطفيف الموازين، عارض شعيب هذا الفساد القانوني بقوله: “فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ” (الأعراف: 85) وبهذا لم يحافظ سيدنا شعيب على قوانين الوطن عندما فسدت، بل عارضها وأعلن رفضه لها، ولم يكن هذا طعنًا في الوطنية بل هو واجب وطني.

2- فساد الأخلاق والأعراف: لمّا انتشر اللواط في قوم لوط واجههم واعترض عليهم قائلًا: “أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ” (الأعراف: 80-81) ولم تكن معارضته لأخلاق وطنه الفاسدة طعنًا في وطنيته بل واجب وطني.

3- فساد السلطة: لمّا تكبّر فرعون وادّعى الربوبية وطغى في حكمه واستعبد الناس، اعترض عليه موسى وحاربه وذكّر بني إسرائيل بفساده قائلًا: “اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُم” (إبراهيم: 6) ولم تكن معارضة موسى للسلطة حين فسدت إلا كمالًا في الوطنية لا نقصًا فيها.

لذا فالمثقف الحقيقي بمعناه الشمولي (المثقف العضوي على رأي (غرامشي) وهو المثقف الذي يمتلك العلم والحكمة والدراية والاطلاع والصدق والنصح والجرأة، وخير من يمثل هذا هم الأنبياء ثم المصلحون ثم المثقفون الحقيقيون في المفهوم المعاصر، أقول فالمثقف الحقيقي في البيئة المناسبة لا يتوانى أبدًا عن الصدع بالحق ورفض الباطل وإعلان رأيه فيما يراه حقًّا أو باطلًا، ولو خالف هذا السلطة أو رأي الجماعة أو قوانين البلد أو أعراف أهله وعاداتهم أو التفسير الأحادي لرأي يقبل التعددية، وليس في هذا مناقضة لمفهوم الوطنية، بل هو من تمام الوطنية.

المثقف الخليجي ومفهوم الوطنية

في دول الخليج طغت الثقافة السياسية القائلة بأن السلطة (مهما كان حالها) هي أهم مكون من مكونات الوطن، وهي صمام الأمان الأوحد لبقاء بقية المكونات أو المستطاع منها، وسقط المثقف الخليجي كثيرًا في هذا الفخ.

إذ يحمل هذا القول في طياته فكرةً متطرفةً لا تمت إلى الثقافة ولا حتى إلى الإنسانية بصلة، وهي فكرة التضحية بكل مكونات الوطن أو بأكثرها على حساب الحفاظ على السلطة، بما في ذلك التضحية بالبشر أو الأرض أو الاستقرار أو البنية التحتية أو جميع ما ذُكر، على حساب بقاء شخص واحد في سدة الحكم يُسمى عندنا مجازًا: السلطة.

ولنا مثال في المثقفين وأشباه المثقفين، الذين يدعمون السلطة في بعض دول الثورات العربية، رغم خسارة الوطن للكثير من بقية مكوناته.

والسلطة في دول الخليج ليست على حد سواء من حيث الفساد والصلاح، أو الظلم والعدل، أو المواقف الإيجابية والسلبية، وإن كانت تتساوى من حيث المبدأ في مسألة الاستبداد بالحكم وعدم تدويره، وغياب الشفافية في توزيع الثروة، وعدم إتاحة قنوات قانونية للاطلاع على الفساد المالي والإداري لدى طاقم السلطات العليا، ومن ثم محاسبته.

لذا يختلف ميزان رأي المثقف الخليجي في اصطفافه مع السلطة أو ابتعاده عنها، باختلاف مدى تحقيق تلك السلطة لواجباتها وتقصيرها فيها.

وهذا أمر متفرع عن موضوعنا وخارج عنه قليلًا، إذ هو مرتبط بتعريف السلطة، ففي دول الخليج السلطة هي الشخص أو الأشخاص الذين يحكمون البلد، أمّا في الدول الديمقراطية فالسلطة هي نظام الحكم وآليته، أما الأشخاص فوكلاء متغيرون ينوبون عن الشعب لتنفيذ مطالبه عبر ذلك النظام المُسمّى السلطة.

ما هي أزمة المثقف الخليجي في مفهوم الوطنية؟

الأزمة تبدأ من الاضطراب في تحرير مفهوم الوطن أولًا، ومن ثم ما مكوناته التي يصح الدفاع عنها دوما، وما مكوناته التي يصح الدفاع عنها بشرط موافقتها للحق والقيمة الأخلاقية؟

ومن هنا نفهم لماذا تظهر لنا نماذج من المثقف الخليجي وحتى المثقف العربي، الذي يصادم مبادئه الثقافية حول حقوق الإنسان والحريات والعدل والسلم الوطني، ويتلكّأ في أحقية شعب عربي قرر التظاهر السلمي أمام السلطة ليطالبها بالإصلاح أو الرحيل، لأن ذلك يصادم في وعيه أو لا وعيه ضرورة الدفاع عن الوطن وأمنه واستقراره (الوطنية المغلوطة).

وكذا نرى نماذج أخرى من المثقف الخليجي الذي يوافق حكومة بلده في مطالبة قطر بإغلاق قناة الجزيرة في أزمة حصار قطر لأن قناة الجزيرة في ذهنه تهدد أمن وطنه واستقراره باستضافتها شخصيات تنتمي إلى المعارضة (الوطنية المغلوطة).

كما نرى أيضًا في بعض دول الخليج نماذج تُكسب صوت السلطة رداء الشرعية (مانعي الصلاة مثالاُ) بدعم أو تبرير بعض القرارات والسكوت عن القرارات الأخرى التي تشكل مخالفات صارخة لمبدأ الحرية والاستقلالية وحق الاختلاف بالرأي، مثل تجريم من يتعاطف مع قطر في أزمة حصار قطر بأي شكل من أشكال التعبير في الإعلام.

وفي وسائل التواصل الاجتماعي نرى الكثير من دول الخليج؛ كل حسب بلده وهم كالسيل في اتفاقهم على المطالبة بمعاقبة شخص أو محاكمة فكر أو إقصاء جماعة أو تبني فكرة أو تمجيد شخصية، ومحاربة كل من يخالفهم في ذلك بدعوى أن كثرتهم هي الوطن، ومن يخالف في هذا فهو مطعونٌ في وطنيته (صناعة أعداء الوطن).

ونلاحظ هنا اشتباه مفهوم الوطنية بمفهوم القبيلة وقانون الانتماء لها، وما أنا إلا من غزية إن غوَت/ غويت وإن ترشد غزية أرشدُ، والحقيقة أن المثقف الخليجي شخص لا يزال يحمل في أعماقه الدفينة بقايا من عصبية الانتماء بطابعه القبلي.

ودور المثقف الحقيقي هنا هو معارضة هذا التوجه الغوغائي ونقده وتوضيحه، لا السير في تياره أو حتى السكوت عنه.

وختامًا

أرى أن المثقف الحقيقي هو الذي يقف في موضوع الوطنية مع مكتسبات الوطن الحقيقية، أمّا الجزء المعنوي من الوطن فيقف فيه مع ما يوافق الحق فقط ولو صادم في ذلك السلطة أو القانون أو الأعراف أو العادات أو الرأي العام أو توجه الأغلبية، هذا حين يكون الحق واضحًا لا مراء فيه، أما إذا كان الحق موطن بحث ونقاش واختلاف، فأيضًا يعلن حق إبداء الرأي المخالف وهذا ليس مطعنًا في الوطنية، بل على العكس دفاعًا عن كمالها.

د. عبدالله السالم
د. عبدالله السالم
شاعر ناقد مدون من قطر

اترك لي أثرك