المدرسة الواقعية في أي مجال؟ السياسة أم الفلسفة أم الفن أم الاجتماع أم التحليل أم الإدارة أم الأدب أم علم النفس أم التربية؟
الحقيقة أن الواقع (أي الحقيقة الراهنة والمعاشة) عنصر مؤثر في كل مناحي الحياة، لذا فإن مصطلح المدرسة الواقعية منتشر في كل المجالات المذكورة وغيرها مما لم يذكر، فما هي المدرسة الواقعية التي أقصد؟
أرى أن الإنسان مهما كانت ميوله وتخصصه وتوجهه، فيلسوفا أو أديباً أو سياسياً أو غير ذلك يتنازعه في إطار التفكير والسلوك عاملان:
الواقع هنا أقصد به الأمر المتحقق الماثل أمام حواسه، كونه فقيرا، كونه معلماً للأطفال في مدرسة في فلسطين، كون بلده في حرب، كون نجاحه الوظيفي مترتب على خيانة أخلاقه، وهكذا، أي واقعه المعاش بلا زوائد.
أما اللاواقع فقد يتعدد مفهومه ليشمل صورا كثيرة مثل:
الخيال مقابل الواقع، المفترض مقابل الواقع، المبدأ مقابل الواقع، الغيب مقابل الواقع، الحق مقابل الواقع.. إلخ.
ومن هنا يتمايز الناس في توجههم الفكري بين من يقدم الواقع على كل شيء كونه العامل الأهم والصوت العالي لاتخاذ القرار وبين من يفحص الواقع ويسائله وينقده ويعايره على معايير أخرى مثل الغيب والعدل والمبدأ والقيمة الأخلاقية والمستقبل وهكذا..
من أخذ أمي فهو عمي.
إن طاعك السوق وإلا طعه.
يد ما تقاويها صافحها.
لا جنّوا ربعك عقلك ما ينفعك.
هذه أمثال من الموروث الشعبي تصب في نفس الاتجاه ومبتدعها لاشك ينتمي إلى المدرسة الواقعية، وكذا كل من يكررها بقناعة عمياء.
في الفقه الإسلامي هناك مدرسة واقعية أنتجت لنا القول بأن الحاكم المتغلب بالقوة والسلاح واجب الطاعة وهو إمام شرعي، لأن البديل هو الاقتتال والفوضى وسفك الدماء وفقدان نعمة الأمن والأمان.
وفي الفقه المعاصر أبطل فقهاء المدرسة الواقعية بعض الأحكام الإسلامية الشرعية بحجة أنها تتعارض مع الواقع، مثل حكم الجهاد الطلبي، وحكم الجزية، وحكم الرق، وبعض قوانين الأحوال الشخصية قاربت من إبطال جواز تعدد الزوجات، وذلك كله لأن الواقع اليوم لا يسمح بهذه الأحكام ، فهناك معاهدات دولية وقوانين عالمية لحقوق الإنسان ونظرة جديدة للصواب والخطأ.
وأيضاً في علم العلاقات الدولية هناك مدرسة واقعية (realism) باتت تتبناها الأطروحات السياسية في أمريكا، وطورت لتصبح واقعية بنيوية (Structural realism).
وهذه الأحيرة ترتكز على فكرة أن الواقع السياسي الدولي يحتم علينا أن نكون الأقوى (كل دولة تسعى لذلك) لكن المدرسة الواقعية البنيوية خجلت أن تعلل ذلك بتعليل المدرسة الواقعية أن الإنسان مجبول على الشر وحب السيطرة، أو كما قال مرجعيتها الإنجليزي توماس هوبز: الإنسان ذئب أخيه الإنسان، فقالت لا، ليس الإنسان وإنما هيكل النظام الدولي يقوم على هذا.
فقط أبدلوا الإنسان بالدولة، ولذا فأي دولة في العالم هي ذئب أختها أي دولة في العالم، ما سوينا شيء!
ومن هذه النظرة تجد أمريكا هي أقوى دولة في العالم، تصنع وتتسلح وتخترع وتحاسب الدول الأخرى على التسلح بل وتحارب عسكرياً أي منافس محتمل، إنها المدرسة الواقعية ، منطق الغابة.
الواقع أمر لا يمكن تجاهله فهو الحاكم الحاضر، ولكن أيضا لا يصح أن يجعله الإنسان هو الحاكم المطلق الشاهد على الحق، فقد يكون الواقع أبعد ما يكون عن الحق، وليس تحكيم الواقع على المباديء والأخلاق وقضايا الإيمان إلا خنوع ذليل لمنطق القوة أو الجماعة (منع صلاة الجماعة بسبب كورونا مثالاُ).
وفي عالمنا العربي المترع بالأحداث والتحولات مؤخراً نجد الكثير من العلماء والدعاة والفقهاء والإعلاميين والمشاهير قد سقطوا في مستنقع الواقعية السلبية، فأي شيء يقوله الواقع يجب أن ننصاع له بدون نقاش، والمصيبة أن واقعنا العربي تصيغه جهات تسلطية أجنبية أقوى، وتنطلق أيضا من مفاهيم المدرسة الواقعية التي تدلها على ضرورة إضعافنا وتهميشنا لتبقى هي القوى العظمى.
هذا في ما يخص القوة العسكرية والصناعية، لكن أيضاً هناك من يسقط في مستنقع الواقعية الظاهرية، مثل الواقعية الإعلامية، والفكرية، والسياسية، ونحو ذلك.
الرضوخ للواقع حيث يكون الواقع متمثلا في جندي أمريكي أو بدعم أمريكي يرفع الرشاش في وجهك، تنفذ ما يقوله أو تموت هو واقع اضطراري، وقد نختلف حول الشخص المضطهد هل يجب أن يدافع عن قضيته ويموت أو أن يرضخ للواقع ويعيش.
ولكن ما عذر من يرضخ لواقع مزيف مثل أن نجمة الغناء هيفاء وهبي أو نانسي عجرم أو الممثلة إلهام شاهين أو عادل إمام أشخاص مشاهير مؤثرون تلقتهم الأمة بالقبول، وعليه فإن لهم ثقلهم في المجتمع ولرأيهم السياسي والاجتماعي وزن يجب اعتباره، إنهم أشخاص فرضهم الواقع، شئنا أم أبينا.
وإذا قلت أن العالم منحلّ فأنت محافظ إذن، وهي لفظة باتوا يلمزون بها مخالفيهم مؤخرا بمعنى: رجعي، متطرف، انعزالي، يعيش في جلباب أبيه.. إلخ.
وكذلك أمريكا هي أقوى دولة في العالم وإعلامها كذلك، وبالتالي فما تقوله أمريكا هو الحق الذي يجب أن يتبع.
ثم يلتفت نحوك بنظرة تعجب واستهجان ويقول لك تلك العبارة الشهيرة: يا أخي خلك واقعي!
هذه هي ذروة بشاعة المدرسة الواقعية، لأن العبارة السابقة تعني: إذا قال الواقع المعاش أن الرذيلة فضيلة وأن الجريمة من أعمال الخير فلا تعارض الواقع بشعاراتك الأخلاقية والمنطقية وتقل لا، خلك واقعي وقل نعم.
والمشكلة تأتي حين يتصدر الإعلام أشخاص ليس لديهم من العمق الفكري ما يخولهم للتمييز في المدرسة الواقعية بين المقبول والمرفوض بين الواقعية الاضطرارية والواقعية الظاهرية المزيفة.
مجموعة من العوام المتفذلكين المنبهرين بقوة العالم الصناعي، وبشهرة نجوم الإغراء، المهووسين بحب الترف والحرية اللامسؤولة والشهوات، بالإضافة إلى محاربتهم للعزائم وللمواقف المكلفة وللتضحية في سبيل المبدأ والكرامة.
هنا انتظر انتشار المدرسة الواقعية بأقبح صورها.