رفاهية النفط
نحن في دول الخليج علمتنا الطفرة النفطيّة الاكتفاء بشراء النتائج الجيّدة، حتى وإن كانت المشكلة صغيرة مثل “لمبة” احترقت، أو إطار سيارة تعطل، أو ماسورة ماء تحتاج إلى ربط، فإننا نعمد إلى شراء النتائج الجاهزة بطريقة استهلاكية، نستعين فيها بالآخرين ليقدموا لنا تلك الخدمات مقابل المال.
وهذا وإن كان خيارا مقبولًا في حدود الرفاهية الشخصية، إلا أنه قد يتحول إلى أزمةٍ حقيقية في رسم الاستراتيجيات بعيدة المدى، إذا كان من يرسمها ويخطّط لها ويقدم الاقتراحات فيها، هو نفس العقلية الاستهلاكية التي ترعرعت على شراء النتائج الجيدة.
التنمية الشكليّة
نحن نصرف الكثير من الأموال لإقامة مؤتمرات دولية، أو احتفالات، أو مهرجانات، أو أيّة فعاليات عالميّة، تلفت الأنظار إلى براعة العمل ونجاح الأداء.
لكنّا لو دققنا النظر، لوجدنا أننا اشترينا فقط ذلك المظهر الأخير الذي تناقلته وسائل الإعلام وأشادت بجماله، فيما كل شيء استقدمناه من الخارج بخشم الريال، التخطيط، والأدوات، وجدول الأعمال، والطاقم، وموسيقى الافتتاح، والمصورين، والمعدّين وكل شيء.
مثل رجل موسر قدّم فناء بيته الواسع لجماعة أقاموا حفلة زواج، وفوق ذلك ضخ عليهم الأموال فقط ليقولوا للمعازيم: هذا فناء بيت الرجل الموسر فلان الفلاني بيض الله وجهه، ويالله تصبحون على خير.
في المجمل، نحن جميعًا نهتم بالذكر الحسن لبلداننا، ويتمنى كل واحد بأن يفتخر ببلاده وهي تحت الأضواء في المحافل الدولية، مرةً تستضيف مؤتمرًا هامًّا، ومرةً تقود حملةً إنسانيّة، ومرّة تقدم مشروعًا إصلاحيًّا، ومرةً تحتضن حدثًا عالميًّا وهكذا.
لكن يجب أن نعترف لأنفسنا بجسارة أن هذه ليست التنمية في قطر التي نرنو إليها، بل ليست من التنمية في شيء.
التنمية الحقيقية
التنمية تبدأ من تطوير الإنسان أولًا، وأول مراحل ذلك صناعة المبدع أساسًا، ثم تطوير البُنى التحتية، وتشريع الأنظمة، وخلق البيئة المناسبة لبقاء عجلة التنمية تدور بشكل صحيح.
أما القفز الواسع والاستباقي للوصول إلى نتائج مبهرة ومفاجئة، فهذا من خدع عمال السيرك التي تعجب الجمهور، وتصيبهم بالدهشة والمتعة إلى أن تُضاء الأنوار، ويخرجون من باب السيرك عائدين إلى منازلهم، ويتحدثون في قضاياهم المهمة: الخبز، والسكن، والمدرسة، والأبناء، والمجتمع، لا ألاعيب السيرك السحرية.
خطة التنمية في قطر
يجب أن نحدد أولوياتنا الوطنية أولًا، والإنسان في مقدمتها، الإنسان بتعليمه وصحته وتثقيفه، وشئون أسرته، ووضعه المهني والمالي وما إلى ذلك، ثم نسرد بقية الأولويات، من بنية تحتية، واستقرار أمني، وسياسي، وغذائي، وديموجرافي، وصناعي، وعلمي، ونضع هذه كلها على طاولة العمل التنموي، كمؤشرات أداء لا نحيد عنها إلى فقاعات الاحتفاليات الاستعراضية، التي نشتريها للظهور في الإعلام لليلة واحدة أو ليلتين.
إذا أحسنّا العمل في سير عملية التنمية الحقيقية في قطر، فإن العالم عندها سيلتفت إلينا من تلقاء نفسه، دون أن نصرف ريالًا واحدًا لجذب انتباهه.
يجب ألا نضيّع أموالنا في بناء ملعب كروي عملاق، أو ناطحة سحاب عملاقة، أو إقامة حفلة عملاقة، أو أي هدر للمال بحثًا عن تلك الصفات التي تأتي على وزن أفعل، أطول، أكبر، أول، قبل أن نعالج مسألة الدراسات العليا في جامعة قطر على سبيل المثال، أو إنشاء تخصصات جديدة فيها.
يجب ألا نضيّع أموالنا في اتفاقيات نافلة أو مؤجَّلة، أو في مسائل أقصى ما توصَف بها أنها معدَّة للتسلية كالألعاب، والمسابقات، ومهرجانات الـ (SHOW)، قبل أن نفك أزمة بعض المواطنين من ذوي الدخل المحدود والمحتاجين، وضحايا الديون ومساجينها ومسحوبي الجنسية، وفئة الأرامل والمطلقات والمسنّين ونحوهم.
هؤلاء هم اللبنة الأولى في جدار التنمية في قطر، بل وفي أي بلد، وتخفيف كواهلهم من أثقال الحياة يعود على الوطن بالإنتاجية والعطاء، فما الوطن إلا مجموع أفراده.
مؤشرات التنمية في قطر
ما الذي نملكه من مؤشرات التنمية في قطر بشكل واقعي، سوى علوِّ دخل الفرد المهدد بشبح التضخم؟
ماذا أيضًا؟ الأبراج، والأسواق، والشوارع والرفاهية؟
هناك أبراج جميلة في السودان، وشوارع تشق الجبال في أفغانستان، وأسواق أثريّة في سوريا، والمخجل أن هناك مصانع تكنولوجيا متقدمة في الهند، وصواريخ نووية في باكستان وإيران، وأشياء كثيرة تنتمي فعلًا إلى التنمية في دول فقيرة بالنسبة لنا، ننظر إليها بتعالٍ مثل تايلند وماليزيا وأمريكا، لا لا أمريكا هذه مزحةٌ لقياس مدى تركيزك معي.
ما دمنا نملك المال، ونستطيع شراء أطباق “الأندومي” الحضارية سريعة التحضير، فلماذا لا ندعس على أنفسنا قليلًا، ونشتري علب الحليب التنموي طويل الأجل؟
إن لم نستطع شراءها فلنستأجرها، فإن لم نستطع فلنتسولها تسولًا، لله يا محسنين، رشفة من حليب تنموي.
أسرار اللعبة
الحياة لن تبقى مبتسمةً لنا هكذا على الدوام، وكلما احتجنا إصلاح “لمبة” الغرفة، أو بناء مصنع للطاقة، بعنا كم برميل من النفط أو الغاز، وأنهينا الصفقة بسهولة.
لا بد من معرفة الخلطة السرية للقوة الصناعية والتقنية بتفاصيلها، من إصلاح “اللمبة” إلى بناء المصنع، والتهرب من هذا الواجب الوطني الحثيث أمرٌ يثير الريبة.
نحن في قطر بخير، قياسًا بدول المنطقة، بخير ماديًّا على المدى القريب، وهذا يكفي الأكثرية وإن كان يُقلق المفكرين، وبخير سياسيًّا لتميزنا بدعم خيارات الشعوب العربية الرافضة للظلم والطغيان.
وعندما أنتقد أوضاعنا فهو من باب البحث الدائم عن الأفضل، وعدم الاكتفاء بالفاضل، أقول هذا بحزن، لأنه في الظروف النقيّة لا يحتاج الكاتب المهتم بتطوير بلاده إلى مثل هذا التبرير والتعليل.
9 تعليقات
أهلا جابر، نورت المدونة.
التنميه الحقيقه هو في تطوير الانسان.. مقال رائع تشكر عليه
جبتها عـ الجرح ياعبدالله
ليتنا على هذا كله مستفيدين شي لا فكرياً ولا ترويحياً إلا متضررين من الزحمه اللي ماتنتهي كلها من اسباب هالفعاليات اللي ماتنتهي والمتواصله هذا اذا ماصادفت انها بوقت واحد والسبب اننا صايرين (مجلس بوحمدان)
عائشة المناعي :
نعم ألاحظ هذا التجاهل عند كثير من كتابنا ، البعض يتجاهل هذه القضايا لأنه لا يملك أدوات النقد والتحليل ، والبعض يتجاهل فقط كي يحافظ على علاقاته الجيدة مع المسئولين .
جاسم المحمود :
أملنا في الأجيال القادمة
بخيت المري :
أهلا بك في المدونة .
السلام عليكم…رأيت التنويه عن مقالك منذ أيام ولكني لم أتشجع على قراءته حينها لقناعتي أن الكتّاب القطريين أصبح لا جديد لديهم سوى اللف والدوران حول المشاكل الحقيقية دون الخوض في أسبابها ونتائجها بجرأة من يريد قول الحقيقة … وهي أن أغلب مشاريعنا الحكومية الضخمة هدفها فقط هو أن نبهر العالم بقدراتنا المادية ويفرح بها أشخاص معينة ولاعلاقة للمواطن بها والمطلوب منه في النهاية حمد وشكر من قرر إقامتها…فشكراً لك على هذا المقال و”كثّر الله من أمثالك”…وشكراً لأخي الذي أصر على أن أقرأ مقالك.
للأسف هذا هو واقع الحال في دولنا
حتى لو كانت الدولة تصرف لتنمية الأفراد وتزويدهم بالعلم والمعرفة فإن المخرجات التي تخرج بها عبارة عن أشخاص تربوا على الصرف والبذخ
والعلم والمعرفة التي حصلوا عليها ماهي إلا باستيراد الأفضل والألمع وكل ماهو جديد في الأول والأكبر والأكثر والأفضل وغيرها من المسميات التي تلمع الصور
ولكن أن يأتي هؤلاء المتعلمون ببراءات اخراعات جديدة وصناعت لم تكن موجودة فهذا لن يحصل يحصل
لأننا وبكل بساطة نبحث عن السهل مادامت الأموال يمكن أن تأتي بها
تقبل خالص تحياتي
الله يعطيك العافيه اخي عبدالله …
زدنا بمقلاتك التي تثلج الصدر ..
تحياتي ..