فكرة المرأة القوية المستقلة من أكثر المفاهيم رواجاً في الخطاب المعاصر، حتى غدت شعاراً مقدساً في الثقافة المادية الحديثة، وأيقونة تتزين بها وسائل الإعلام وحركات التحرر النسوي.
تُطرح الفكرة بوصفها مفتاح السعادة وسبيل النجاح والكرامة، لكنها في الواقع قناعٌ أنيق يخفي مشروعاً قديماً لإعادة تشكيل المرأة على مقاس السوق والمنظومة المادية الحديثة.
أولاً: الجذور الغربية لفكرة المرأة القوية المستقلة
تعود هذه الثقافة إلى الغرب الصناعي الحديث الذي انقلب على منظومة القيم الدينية والأخلاقية التي حكمت أوروبا قروناً.
نشأت الفكرة في رحم الثورة الصناعية حين احتاجت المصانع إلى يدٍ عاملةٍ رخيصة بعد الحروب الطاحنة، فكانت المرأة الهدف الأسهل للتجنيد الاقتصادي.
وهكذا رُفعت شعارات التحرر والتمكين لتُغطي على استغلالٍ اقتصاديٍّ صريح، حُوِّل فيه جسد المرأة ووقتها إلى سلعة إنتاج واستهلاك.
لم يكن هذا التحول ثمرةَ صحوةٍ فكرية بقدر ما كان استجابة مباشرة لاحتياجات رأس المال؛ ثم جاءت الموجات الفكرية النسوية لتمنح المشروع غطاءً أيديولوجياً يُجمّل صورته.
ومع مرور الزمن، تحوّل الشعار إلى معيارٍ قيميّ يُقاس به نجاح المرأة، وإن كان الثمنُ اضطرابَ التوازن الأسري والداخلي.
ثانياً: المادية اللا أخلاقية وتشييء الإنسان
أسهمت المادية الحديثة في تفريغ الإنسان من معانيه الروحية حين اختزلته إلى كائن يُقاس إنتاجه واستهلاكه.
وفي هذا السياق، صار يُنظر إلى المرأة على أنها “قوية” بمقدار ما تُحاكي الرجل وتنافسه وتستغني عنه، لا بمقدار ما تُعبّر عن أنوثتها ودورها الفطري في بناء الأسرة والعمران الأخلاقي.
هكذا جُرّدت الأنوثة من جوهرها، وغدا الجمال سلعة، والعاطفة ضعفًا، والرحمة تهمةً تُلقى على من لم “تتحرر” بعد.
تُتّهم المرأة التي تختار بيتها وأطفالها بالرجعية، بينما تُوصف التي تُهمل ذلك بالحداثة.
يا لها من مساواةٍ تُشبه من يطلب من الطائر أن يطير بجناح واحد ثم يلومه إن سقط!
لم تُمزّق المادية فطرة المرأة فحسب، بل شوّهت مفهوم العلاقة بين الجنسين حين حوّلتها من ميدان مودةٍ ورحمة إلى ساحة صراعٍ على السلطة والتمثيل؛ وما المرأة القوية المستقلة سوى أحد أعراض هذا الخلل في التعريف والميزان.
ثالثاً: النسوية والتمرد على الفطرة
بدأت الحركات النسوية بمطالب تبدو منطقية: التعليم، الأجر المنصف، والتمثيل العام. لكن الموجات المتأخرة اندفعت نحو إعادة تشكيل الهوية الأنثوية نفسها؛ صار “التحرر” مرادفاً لرفض المرجعية الأخلاقية، وصار “الاستقلال” يعني التمرد على الرجل والأسرة والدين، حتى باتت الفطرة تُتَّهَم بالتعصب.
تصوير الزواج عبودية، والأمومة قيداً، والحياء ضعفاً؛هذه ثمار خطابٍ يجعل التمرد غايةً في ذاته.
ومع اتساع الفجوة بين الدعوى والواقع، تدفع كثيرات كلفة الوحدة والاحتراق النفسي والاضطراب الهويّاتي، بينما يُباع لهن الشعار ذاته بعبوات لامعة جديدة كل موسم.
رابعاً: المرأة القوية المستقلة في ضوء الإسلام
يقدّم الإسلام رؤيةً متوازنة تعيد الإنسان إلى مركز الفطرة: للمرأة ذمة مالية مستقلة، وهي في الوقت نفسه جزء من كيان أسريّ متكامل يقوم على قوامة الرجل وتكليفه بالمسؤولية والرعاية لا على الصراع.
قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}، وهي قوامة خدمةٍ ورعاية، لا استعلاء.
لا ينفي الإسلام طاقة المرأة ولا حضورها العام، لكنه يعيد توجيهها في الإطار الصحيح: مشاركة دون مسخ، عطاء دون فقدان الهوية، حضور دون تنازل عن الحياء.
جمال المرأة في ضعفها الرقيق وأنوثتها، لا في تشبّهها بالرجال؛ وفي تبعيتها للرجل (أبًا وزوجًا) حماية ومسؤولية، لا مهانة ولا انتقاص.
خامساً: الخداع الإعلامي والتناقض التشريعي
يرفع أنصار الشعار لافتة “القوة الذاتية المطلقة للمرأة”، ثم يضغطون لإقرار قوانين تفضيلية دائمة باسم “تمكين المرأة”.
إن كانت المرأة قوية بذاتها كما يُقال، فلماذا تحتاج امتيازاتٍ تشريعيةً مستمرةً تُخالف مبدأ المساواة الذي يعلنونه؟
إنها مفارقةٌ ساخرة: من يزعم أن السباحة حرية مطلقة، ثم يسيّج المسبح بسياج يمنع الوصول حتى لا يغرق السابحون!
هذا التناقض يُنتج اعتماداً دائمًا على الأنظمة بدل ترسيخ الكفاءة الحقيقية، ويُبقي المرأة في حلقة تنافس مع الرجل لا تنتهي، بينما الخسارة تمتد إلى الأسرة والمجتمع معًا.
سادساً: ندم المتحررات والعودة إلى الأسرة
تتكاثر شهاداتٌ لنساءٍ جرّبن “الاستقلالية” حتى منتهاها ثم راجعن اختياراتهن: اكتشفن أنهن دفعن أثمانًا باهظة في العلاقات والطمأنينة والهوية مقابل مكاسب مهنية باردة.
هذه الاعترافات لا تنطلق من التزامٍ ديني بالضرورة، بل من حصيلة تجربةٍ طويلة مع سوق العمل وثقافة الفردانية.
سابعاً: النتائج الكارثية لأسطورة المرأة القوية المستقلة
- تفكك الأسرة وارتفاع معدلات الطلاق والعزوف عن الزواج.
- انتشار الاكتئاب والاحتراق النفسي بسبب عبء الدورين: العمل والأسرة.
- انخفاض معدلات الإنجاب حتى في المجتمعات الثرية، مع آثار ديموغرافية خطيرة.
- ضياع الهوية الأنثوية وتحول النساء إلى نسخٍ مشوّهة من الرجال.
والنتيجة الأقسى: أن تفقد المرأة ثقتها بفطرتها، فتسخر من نفسها حين تحب، وتعتذر عن أنوثتها كما لو كانت خطيئة.
ثامناً: العودة إلى الفطرة
يبدأ التعافي من الاعتراف بأن “المرأة القوية المستقلة” أسطورةٌ حضارية صاغها الاقتصاد لا الإنسان.
القوة الحقيقية للمرأة ليست في الوقوف منفردة،
بل في الوقوف حيث يجعلها ميزان الفطرة:
بجانب الرجل
لا في مواجهته؛
في التكامل،
لا في الصراع.
الاستقلال الحقّ هو الاستقلال عن الأوهام والشهوات، لا عن الفطرة والأسرة.
المرأة قوية حين تختار بحكمة، لا حين تتمرد بجهالة؛ أمّا “التبعية” في الإسلام فهي تبعية مودةٍ ورحمة ومسؤولية، لا قهرًا ولا استعبادًا.
وبعد اجتماعٍ طويل في ناطحة سحاب، تعود “المرأة القوية المستقلة” إلى بيتٍ فارغ، وتنظر في المرآة سائلة:
من الذي هُزم؟ من الذي انتصر؟

