نحن مسلمون، نؤمن بالله تعالى ونبوة محمد ﷺ، لذا نصدّق ما جاء به القرآن الكريم تصديقاً مطلقاً وما ثبت من كلام النبي ﷺ أو هكذا يفترض بنا كي يصدق علينا وصف: مسلمين، وبالتالي فالواجب علينا أن نصدر من هذين المصدرين في الحكم على القضايا المهمة الكبرى مثل منع صلاة الجماعة أو إغلاق المساجد لا بمجرد اجتهادات مسلوقة باردة تتسابق إلى تعطيل صلاة الجماعة كما سنرى في أدلة مانعي الصلاة هداهم الله.
ومعنى هذا أننا نؤمن أن في أوامر الله لنا ونواهيه خيراً لنا أو كف شر، ولا نستقل في تحديد الخير والشر بعقولنا أو تجاربنا البشرية القاصرة فقط.
فمثلاً لو نصح الطبيب الماهر الخبير مريضاً وقال له: عليك أن ترتاح في فراشك ولا تتحرك كي لا تضاعف حالتك المرضية، وكان المريض يجد نفسه قادراً على القيام والجلوس فإنها تجب عليه الصلاة قياماً وجلوساً، هذا أمر الله وليضرب أمر الطبيب بعرض الحائط.
وإذا كان لا يستطيع القيام صلى جالساً إن كان يستطيع ذلك ولو أمر الطبيب بعكس ذلك.
وأمْر الطبيبِ هنا أمر احترازي وقائي، فهو في الغالب يأمر بهذا احتياطاً لا لمعرفة يقينية بنتيجة محققة، وكثير من الطب كذلك، أما الأمر الشرعي فصادر من العليم الخبير سبحانه، وبالتالي احتمالية تحقق نتيجته ليست محل نقاش، ولا يصح تعطيل هذا الأمر أو تعديله إلا حسب الاستثناءات الواردة من الشرع أيضاً.
إذن، مصادر المعرفة والتكليف لدينا -بصفتنا مسلمين- هي النقل الموثوق أولاً كنصوص القرآن وصحيح الحديث الدالّ، ومبادئ الشريعة الثابتة، ثم بعد ذلك ما توصل إليه البشر من معارف وتجارب مؤكدة لا تتعارض كلياً مع النقل الموثوق.
لكن المسلمون اليوم قد فتنوا بالعالم المادي العلماني الذي صبغ كل معالم حياتنا، والذي تسوّقه لنا الثقافات المادية التي لا تؤمن بشيء سوى المحسوس والقابل للتجربة والقياس، والمنتج للمنفعة والفائدة، حتى لو كانت فوائد كورونا نفسه من المردود الاقتصادي الضخم للشركة التي ستكتشف اللقاح، أما الغيب فلأحاديث السمر والطرائف فقط.
مستند مانعي الصلاة
سارعت العديد من البلدان الإسلامية إلى قرار منع صلاة الجماعة ثم إغلاق المساجد، اجتهاداً منها في محاولة احتواء هذا الوباء الجديد فايروس كورونا، تبعاً لإرشادات أهل الاختصاص في معظم دول العالم بالتقليل من التجمعات البشرية أو حظرها بالكامل، كي لا ينتشر المرض بالعدوى.
ولأنها اجتهادات بشرية تقريبية قاصرة فإن دولة بأهمية بريطانيا في التقدم العلمي الحديث قررت بادئ الأمر عدم اتباع هذه الإرشادات الاجتهادية، وإنما تجربة نظرية أخرى وهي نظرية مناعة القطيع التي تسمح بممارسة الحياة الطبيعية كما كانت، وبالتجمعات البشرية، بل وبالإصابة بالعدوى أيضا، وذلك لتقوية جهاز المناعة عند مجموع الناس بتمكينه من التعرف على الفيروس لاحقاً والتغلب عليه، بالطبع بعد تقديم تضحيات بشرية لا مفر من التضحية بها لصالح الجماعة.
ثم تراجعت بريطانيا عن هذا القرار في اجتهاد بشري آخر ونظرية أخرى.
أما السويد فإلى الآن لم تغير شيئا في نمط الحياة المعتاد، بالرغم من إصابة أكثر من 6800 ووفاة 400، نظرية أيضا.
نظرية، وما أكثر النظريات البشرية المتعارضة والمتقاربة والمتطورة بعضها من بعض.
الحكم الشرعي الخاص بعلاج كورونا
حسناً، بما أنها نظرية واجتهاد بشري فماذا قال لنا رب البشر جل وعلا في هذا الموضوع على وجه الخصوص؟
أي: بماذا أمرنا أو نهانا في القرآن أو تعاليم النبي ﷺ إذا واجهنا فايروس كورونا الجديد على وجه التحديد؟ أو حتى أي فايروس مشابه؟
الحقيقة أنه لم يقل لنا شيئاً في هذا الخصوص وتركنا نجتهد ونجرّب ونصل إلى النتائج أو لا نصل، ونختلف في تناول الأمر وبحثه كلٌ حسب منطلقاته، وهذا حكم الله وحكمته، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، و”لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ”. الأنبياء: 23.
وليس الأمر خاصاً بهذا المرض ولا مجال الأمراض فقط، بل كل جديد من مجالات حياتنا المختلفة، الطب والتعليم والعمل والعمران والفضاء والاختراعات والسياسة.
لكن انتبه!
هو لم يقل لنا شيئا في هذا الخصوص لكنه قد أعطانا من قبل خارطة طريق تشتمل على إرشادات عامة يجب أن يكون اجتهادنا النظري والعملي وتجاربنا الحياتية داخل إطارها.
فمثلا يجب ألّا نقتل أو نكفر أو نزني أو نعطل أحكام الله العامة أو نحل شيئا من ذلك، أو نأمر به في سبيل معالجتنا لنازلة جديدة لم نواجهها من قبل، ولم يقل لنا الله فيها شيئا على وجه الخصوص.
وإذا كان هناك رخص أو استثناءات في هذه الأحكام موجودة في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه ﷺ فإنها تُعمل كما هي وبحدودها وضوابطها التي قدرّها الشرع، لا نزيد ولا ننقص، وذلك لأنها تعليمات جاءت من الله العليم الحكيم وهو من يعلم الصورة الكلية الشاملة لأي أمر بأبعادها المادية والمعنوية، والمرئية والغيبية، فلا نتجاوز تعليماته باجتهادنا القاصر.
مثال أول: قال لنا: لكم أن تقصروا الصلاة في السفر فقط، فلا نقول يجوز القصر في كل مشقة قياساً على السفر، وقال لنا القصر ركعتان، فلا نقول يجوز أن نجعلها ركعة واحدة لطول السفر أو زيادة المشقة.
مثال ثان: قال لنا من خلال سنة نبيه ﷺ: يجوز لكم أن تصلوا في بيوتكم في الليلة المطيرة والأرض الزلقة، فلا نقول إذن يجوز أن نصلي في بيوتنا في ليلة مباراة برشلونة وريال مدريد، أو ليلة نتائج الانتخابات، أو ليلة تلبد السماء بالغيوم، أو ليلة أخبرتنا فيها الأرصاد الجوية أنها ستكون ليلة مطيرة، أو في الليلة المطيرة على المنطقة المجاورة لمنطقتنا حسب ما رأينا في الإعلام.
مثال ثالث: حين أجاز لنا الصلاة في البيوت بسبب المطر لليلة واحدة لسبب حسي متحقق مباشر وهو عدم إمكانية الوصول إلى موقع صلاة الجماعة بسبب المطر الغزير أو الدَحَض (الزلق) فلا نسحب هذا الحكم على بقية الأسباب المتوقعة أو غير المباشرة، مثل: نعم أنا أستطيع الوصول إلى المسجد بكل سهولة، لكني أخشى من العدوى بالمرض بناء على احتمال أن أحد المصلين مريض.
ملاحظة: لنتذكر أننا هنا نتحدث عن إقامة صلاة الجماعة لا الصلاة مع الجماعة، الأولى شعيرة أقل ما يقال فيها أنها فرض كفاية يجب أن يقوم به من يكفي وإلا أثم الجميع، والثانية للأفراد على خلاف بين العلماء في حكمها.
أمر آخر: نحن نتحدث عن فريضة إقامة صلاة الجماعة في الأحياء والمناطق الفرعية داخل الدولة، فما بالك إذا كان تعطيل صلاة الجماعة عام في الدولة.
قرار منع صلاة الجماعة + إغلاق المساجد
في معظم الدول الإسلامية تسابقت اللجان الشرعية في وزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية والمؤسسات الفقهية مثل هيئة كبار العلماء في السعودية وهيئة كبار العلماء ودار الإفتاء في مصر وغيرها إلى إصدار فتوى شرعية بنت عليها الحكومات قرار منع صلاة الجماعة ثم إغلاق المساجد في هذه الدول، ورأيي أن وراء هذا السباق المتعجل في فتوى مانعي الصلاة ثلاثة أسباب:
الأول: انصهار الفقه الإسلامي المعاصر -للأسف- بكثير من المفاهيم والمعايير العالمية التي فرضتها ثقافة الواقع المادي، ومن ذلك مفهوم المصلحة والمفسدة والنفع والضرر والخير والشر والذريعة والعرف والسياسة والواقعية والليبرالية، ونحو ذلك.
الثاني: سطوة الإعلام الجديد وقوة تأثيره على الناس، بمن فيهم علماء الدين وأصحاب القرارات.
الثالث: تبعية أكثر مؤسسات الفتيا والاجتهاد وأعضائها للأنظمة الحاكمة والعمل على ترقيع وتسويغ توجهاتها وقرارتها شرعياً قدر الإمكان، فمنذ إنشاء هذه المؤسسات لم يحدث أن أفتت بما يعارض سياسة دولها على كثرة مخالفاتها الشرعية.
أدلة مانعي الصلاة
احتجت هذه المجمعات الفقهية لصحة منع صلاة الجماعة وما تبعه من إغلاق المساجد بل ووجوب ذلك بحجج واهية في الواقع والشريعة.
أما في الواقع فها نحن نرى العديد من الجهات الحكومية والتجارية والخدمية التي لم يطالها قرار المنع، وذلك على اعتبار أنها تقوم بأعمال ضرورية لا يمكن أن تتوقف، من ذلك البنوك وشركات الاتصالات والوزارات المختلفة وغير ذلك.
وعلى افتراض أنها كلها من الضروريات وهذا غير صحيح فهل هي أكثر أهمية وضرورة من إقامة الجمعة والجماعات في البلدان الإسلامية؟
أما في الشريعة فاحتجوا بعمومات بعض النصوص المُخصَّصة، أو بتخصيص بعض النصوص العامة بلا مخصص، ومن ذلك:
- قول الله تعالى: “وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة” البقرة: 195.
الرد: أن الآية جاءت أساساً في النفقة، فالتهلكة هنا هي ترك النفقة في الجهاد والركون للحياة الدنيا بإصلاح الزرع والدور والتجارة كما في كتب التفسير.
فتفسير الآية جاء على العكس تماماً من استدلال مانعي الصلاة إذ التهلكة تكون بترك أمر الله في النفقة في الجهاد والاحتكام لحكم العقل والبشر في تصورهم لأسباب الحياة والهلاك، والنجاح والخسارة، بل أن الجهاد مظنة الهلاك الحسي، وجاءت الآية تسمي عدم النفقة فيه تهلكة، لكن هذا هو حكم الله وتقديره للخير والشر والنفع والضرر والهلاك والبقاء.
فكان الأولى بالاستدلال أن يستصحب الحكم العام فنقول أن كل ركون إلى الحكم البشري في معيار النفع والضرر وترك أمر الله وحكمه هو الهلاك والتهلكة، لا العكس.
وكذا ترك أمر الله وحكمه بإقامة الجمعة والجماعات لغير ظرف قاهر حقيقة هو تهلكة أيضا.
وإذ أعمل العلماء دلالة الآية على عموم لفظها لا خصوص سببها في النهي عن الإلقاء بالنفس إلى التهلكة عموما، فإن المقصود بذلك هو التهلكة المتحققة لا المحتملة جراء القيام بواجب شرعي ثابت، مثل احتمالية إصابة المصلين بالعدوى بعد أخذهم الاحتياطات اللازمة.
- وقوله تعالى: ” وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” النساء: 29.
وهذه الآية مثل سابقتها، حكمها الأصلي تحريم ما حرم الله، وهو أكل أموال الناس بالباطل كما في صدر الآية، واعتبار مخالفة ذلك قتلا للنفس، وبعد ذلك تتسع دلالة الآية لتشمل كل معنى يفيد ذلك ولكن بشرط أن يكون المعنى فيه متحققا لا بمجرد الاحتمال، وإلا فذهاب الناس كل يوم في زحام السيارات فيه احتمال بقتل النفس بسبب الحوادث المرورية، ولم يقل أحد بتحريم ذلك أو منعه.
- وقول النبي ﷺ: (لا يُورِد ممرض على مصح) متفق عليه.
وهذا خاص بالممرض المؤكد ولا يجوز تعميمه على كل مشتبه به أو محتمل المرض، فالمصح نفسه محتمل المرض أيضا، فلو كان المنع للمريض من دخول المسجد لكان الاستدلال صحيحاً.
- وقوله ﷺ: (فرّ من المجذوم كما تفر من الأسد) أخرجه البخاري.
وهذا مثل سابقه، يتكلم عن المصاب بالمرض حقيقة، ولو كان استدلال مانعي الصلاة جماعة وما تبعه من إغلاق المساجد استدلالً صحيحاً لكان الحديث يمنع الناس من التجمع لمجرد وجود مجذوم أو مريض يسكن في بلدتهم أو في حيهم.
- وقوله ﷺ: (إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها) متفق عليه.
وهذا عام في وجوب الأخذ بالأسباب بالحد المعقول، ومن الحد المعقول أنه لم يقل وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تصلوا جماعة وأنتم أصحاء.
- وقوله: (لا ضرر ولا ضرار). رواه ابن ماجه.
وهذا عام حيث لا يوجد دليل معارض له، فكيف إذا كان الدليل المعارض هو مبادئ الشريعة ونصوصها المتضافرة على ضرورة القيام بشعائر الدين الكبرى كالجمع والجماعات والأعياد ونحو ذلك.
كما أن الضرر في هذه المسألة غير متحقق وإنما هو مظنون بدرجة مختلفة باختلاف الأحوال والأشخاص والأماكن، فلو كان فايروس كورونا بشحمه ولحمه واقفاً على باب المسجد لكان احتمالية الإصابة المرضية به نسبية أيضاً، إذ يؤكد الأطباء أن فايروس كورونا قد يصيب العديد من الناس وتتغلب عليه أجهزتهم المناعية بلا مرض، وقد تتغلب عليه بمرض يسير مثل أي أنفلونزا موسمية، وقد يكون بمرض شديد، وقد يقتلهم، فهل كل هذه الاحتمالات على حد سواء في جواز تعطيل حكم شرعي ثابت على وجه قطعي؟
وهذه الاحتمالات موجودة بكثرة في العديد من مناحي حياتنا اليومية، فالسيارة قد تعرضنا لحادث مروري والكهرباء قد تصعقنا والسكري والضغط قد يقتلنا وهكذا..
بل إن احتمال الموت في القتال أقوى من كل الاحتمالات السابقة، ومع هذا لم يأذن الله بتأجيل أو تعطيل صلاة الجماعة حال قيام المعركة، بل أوجبها مع تعديل محدد كما هو معروف في صلاة الخوف.
ولو كان لكل ضرر حسي -ولو اليسير والمظنون منه- اعتبار شرعي في إسقاط الأحكام الشرعية لما أقيم حكم شرعي واحد، فإنه يوجد ولو بنسبة يسيرة نوع من أنواع الضرر الحسي المتحقق أو المحتمل في كل أمر أو نهي، أولها مشقة مخالفة الهوى ورغبة النفس، وإمكانية الضرر من الوضوء البارد، وإمكانية الضرر من الذهاب للحج، وإمكانية الضرر من قول الصدق وغير ذلك.
- كما احتجوا بحجج أوهى، ومن ذلك حديث صلوا في رحالكم في الليلة المطيرة. فمدوا الليلة إلى أجل غير مسمى.
- وقالوا أيضاً: أن مقاصد الشريعة حفظُ النفوس وحمايتها ووقايتها من كل الأخطار والأضرار، وهذا استدلال عام لا يقوى لإسقاط أو منع أو تعطيل أو تعليق شعيرة من شعائر الدين مثل إقامة صلاة الجماعة في البلاد، وإلا لكان دليلا على جواز تعطيل الحدود والكفارات والجزاءات الشرعية ففي بعضها أخطار وأضرار على النفوس.
9. واستدلوا بانتقال المسلمين للجبال في طاعون عمواس بناء على اقتراح الخليفة الفاروق، وليس في هذا دليل ولا رائحة دليل على جواز منع المسلمين من إقامة صلاة الجماعة، وتعطيل صلاة الجماعة في البلدة في هذه الحادثة -إن وجد- ليس بسبب منعها مع بقاء المسلمين في البلدة، بل لأنهم ذهبوا إلى الجبال ولم يعد في البلدة أحد.
حلول وخطوات لتفادي تعطيل صلاة الجماعة
كان الأجدر ألا نتجرأ على تعطيل شعيرة من شعائر الإسلام الثابتة بهذا الاستسهال والاستعجال والتبرير المادي القاصر، ونتسابق إلى تعطيل صلاة الجماعة أو إغلاق المساجد ما دام أن الحياة في الخارج لا تزال تعمل ولو بالحد الأدنى.
هناك خيارات كثيرة تؤدي لنفس النتيجة أو قريباً منها، مثل:
- التوجيه بلزوم البيوت، والأذان بالصلاة في رحالكم، ولكن ترك بيوت الله مفتوحة لمن أراد، مع الالتزام بإجراءات الوقاية.
- تجهيز المساجد لتكون متوافقة مع إجراءات الوقاية، كتوفير مطهرات وكمامات وقفازات على الأبواب وداخل المسجد، ووضع فواصل لعدم تلاصق المصلين، وتعقيم المسجد بشكل دوري ولو من قِبل الإمام أو المؤذن، وغير ذلك من الإجراءات الممكنة.
- تجهيز المساجد لتحويلها إلى مقار للعزل الصحي أو التطبيب أو غير ذلك، لإبقائها صالحة لإقامة صلاة الجماعة.
- إن تطور الوضع الصحي في بلد ما إلى مرحلة مقلقة، وكان لا بد من ضرورة منع المصلين من التجمع، فعلى الأقل يترك بعض المساجد الكبيرة في البلد مع الإشراف الصحي التام عليها، وتغلق البقية، وذلك لإبقاء شعيرة إقامة صلاة الجماعة حية في البلد المسلم.
يجب أن نقدّر الأمور بقدرها ونفرق بين الأحوال المختلفة، فمثلاً شعيرة إقامة صلاة الجماعة في البلاد فريضة ثابتة لا يمكن إسقاطها بلا عذر، ولا يصح أن يكون العذر مبررات محتملة أو ظنية، فالضرر المحتمل المبيح لمنع صلاة الجماعة في هذه الفتوى المقصود به الإصابة بفايروس كورونا ومن ثم تفشيه، ووقوع هذا الضرر محتمل، وتقديره غير منضبط، وغلبة الظن بوقوعه يختلف من بلد إلى آخر ومن شخص إلى آخر، وحتى مع افتراض حتمية الإصابة به فالنتيجة النهائية ليست معروفة على وجه التأكيد، هل هي المرض اليسير أم الشديد أم الموت، وبالتالي لا يصح أن يبنى عليها حكم شرعي، فكيف بإسقاط حكم شرعي.
الاقتصار على التفسيرات المادية
ينتشر في هذه الأزمة الوبائية القول بأن المرجعية الوحيدة للتشريع والرأي هي قول أهل الاختصاص، وبالتالي فإذا قال أهل الاختصاص أنه يجب بقاء الناس في بيوتهم ويمنعون من التجمع لصلاة الجماعة فالقول قولهم بلا منازع.
وعندما نعود إلى أدلة أهل الاختصاص في هذا التشريع نجد أنهم يستندون على سبب قديم يعرفه الخاصة والعامة منذ آلاف السنين، وهو انتقال المرض بالعدوى، فهم لم يأتوا باكتشاف جديد في هذا الشأن، وهم أيضاً يقرّون أن انتقال المرض بالعدوى مسألة معقدة وغير منضبطة، فقد ينتقل المرض بالعدوى لشخص دون آخر معه في المنزل.
وقد نفى النبي ﷺ تسبيب المرض بالعدوى فقط، فقال في الحديث: “لا عدوى”، مخالفاً بذلك التصور الشائع عند الناس، ومخبراً بخبر موثوق من الله تعالى، أن العدوى ليست هي السبب الوحيد والنهائي في انتقال المرض، وعندما أشكل الأمر على بعض الحاضرين فقال: “يا رسول الله الإبل تكون في الصحراء، كأنها الغزلان، فيدخل فيها البعير الأجرب فيجربها، فقال ﷺ: فمن أعدى الأول؟”. متفق عليه.
وصحة الإنسان ومرضه وشفاؤه مسائل شديدة التعقيد والغموض حتى الآن، وذلك لأنها مرتبطة بأسباب غير قابلة للحصر، وبعضها فيزيائي مادي قابل للقياس وبعضها معنوي أو غيبي، وظني أنها كلها أسباب فيزيائية ومبنية وفق نظام رياضي دقيق لكن الإنسان لم يتوصل بعد إلى فك شيفرة الكثير من قوانينه، وقد يأذن الله بالتوصل إلى هذا الحد وقد لا يأذن.
والأمراض والقدرة على التشافي منها من هذا الجانب المعقد الخفي على الأطباء من حيث الإحاطة بصورته النهائية.
فمثلاً يقر الأطباء بعلاقة الجانب النفسي للإنسان في التعرض للمرض أو التشافي منه، والجانب النفسي حقل لا يزال غامض المعالم عصياً على الانكشاف الكامل والانضباط العلمي حتى الآن.
كما أن للأشياء -وأنا أستخدم كلمة الأشياء عمداً هنا لأنني بالفعل أعني هذا الإطلاق الواسع- للأشياء حولنا وفي كوكبنا وفي كوننا وما نعلمه منها وما لا نعلم تأثير يظهر أو يستتر على وضع الإنسان وصحته ومرضه وأفعاله واختياراته، بل لها أيضا تأثير وارتباط منتظم ببعضها البعض، أؤمن بهذا ليقيني أن الله خلق كل شيء بقدر، وأن هذا الكون يسير وفق قوانين منضبطة يرتبط بعضها ببعض، سواء القوانين الكبرى مثل حركة الكواكب أو الأرض أو البشرية، أو حتى أدق دقائقها مثل المايكروبات والفيروسات والذرات والبروتونات والإلكترونات وما هو أدق من ذلك.
والعلم يسير ببطء لاكتشاف الرابط بين العديد من هذه الكائنات وقوانينها.
فإذا كان للموسيقى تأثير ما على بعض المرضى كما لاحظ بعض الأطباء، وكذا التخيلات، والأوهام، والقناعات، فما المانع أن تكون للأصوات علاقة بالحالة الصحية للإنسان، وكذا الموجات المختلفة، والذرات المتطايرة والمناخات المختلفة، والمعادن، وحركة الكواكب والنجوم والجن والشياطين والحسد والعين، وغير ذلك.
وقد ثبت في كلام الله تعالى أو في كلام النبي الموحى إليه ﷺ بعض هذه التأثيرات التي لم يكتشف الإنسان علاقتها ببعضها حتى الآن، مثل الاستشفاء بالقرآن والتريح بالصلاة والحياة في القصاص وتفادي التهلكة بالنفقة في الجهاد، وغير ذلك.
واقتصار الإنسان على ما ثبت لديه من النتائج التجريبية الناقصة وطرح ما سواها مما ثبت من أخبار الله ونبيه خلل في الإيمان واغتترار بالعقل البشري الذي يثبت كل مرة قصور إدراكه وخطأ تجربته، بل العقل نفسه يعترف أنه لم يصل بعد إلى حل أسرار الكون الكبرى ولا قارب ذلك.
مرجعية أهل الاختصاص
القول بأن أهل الاختصاص هم المرجع في اختصاصهم صحيح في إطار اختصاصهم فقط، ما سبب المرض وما الدواء وما طرق تفاديه وهكذا، لكنهم ليسوا المرجع في تقرير حكم شرعي أو تعديله أو تعطيله أو الاجتهاد في أحكام الشريعة، لأن الدين قد اكتمل وليس هناك أسباب جديدة لتغيير أحكام الدين، سوى ما أذن بها الله ضمن طرق وضوابط محددة، وهي مستقرة في كتب الشريعة.
كما أنهم أيضاً ليسوا أهل اختصاص في الاجتهاد في أمر حساس خطير يمس مسألة دينية كبرى يدين بها عموم المسلمين، بل أهل الاختصاص هنا هم أهل السياسة الشرعية.
والملاحظ أيضاً أنه يغلب على أكثر أهل هذا الاختصاص من الأطباء وعلماء الأمراض والأدوية اقتصارهم على الطرق المادية التجريبية في تفسير الأشياء حولنا، ويغفلون الجانب الغيبي والمعنوي الذي لم يتوصل إليه علم البشر بعد، ومن ذلك أثر الدعاء والقرآن والعبادة واللجوء إلى الله تعالى في الشفاء من الأمراض ومعالجة المشكلات الحسية التي تواجه البشر، لأنها طرق غير قابلة للتجربة العلمية حتى الآن، ولكن المسلم المؤمن يصدّق بفاعلية هذه الطرق لإيمانه بعلم ومصداقية من قالها.
ومسألة اقتصار أكثر علماء الطبيعة من غير المسلمين على ما توصلوا إليه من تجارب، واعتمادهم الكلي عليه، ونفيهم لما سوى ذلك، أمر ظاهر للعيان، وهو قصور في الإيمان والعقل أيضاً، وتنكب للمنهج العلمي الموضوعي الذي يعترف به بعضهم في أن البشر لم يصلوا حتى الآن إلا إلى القليل الضئيل من علم الأشياء، وهم في كل حقبة يبطلون أو يعدّلون قانوناً علمياً كانوا يسيرون عليه حيناً من الدهر ويقيمون آخر في مسيرتهم البطيئة للتطور العلمي.
خطورة الجرأة على تعطيل صلاة الجماعة
سبق وقلنا أن أحكام الله الكبرى مثل الشعائر والفروض والكليات الدينية فرضها الله تعالى لكمال علمه بأبعاد الصورة الكاملة الشاملة لأي أمر، وتعطيل واحدة من هذه الشعائر والفرائض لمعالجة أمر آخر يشبه العبث بآلة عملاقة ذات أجزاء كثيرة مترابطة ببعضها البعض، والتجرؤ على تعطيل أو محاولة تغيير جزء فرعي من هذه الآلة العملاقة، دون العلم بأثر هذا التغيير على عمل الآلة ككل.
كما أن تعطيل صلاة الجماعة في البلاد أو في أكثرها لمدة طويلة أو غير محددة، سيتسبب باعتياد الناس على هجران المساجد والتهاون في صلاة الجماعة.
وتعطيل صلاة الجماعة في المساجد مدخل خطير لأعداء الإسلام وحتى للطغاة من الحكام المسلمين للتهاون في فرض هذا الإجراء تعسفياً كلما جد أمر لهم فيه مصلحة.
وأيضاً، الجرأة على تعطيل صلاة الجماعة لأسباب ليست قاهرة منفذ لتعطيل أحكام أخرى لأسباب مشابهة أو أقل خطورة.
2 تعليقات
إنها اجمل مقالة قراتها وأعدل فى الحكم
حياك الله أخي موسى، سعدت برأيك.