المصالحة الخليجية , الازمة الخليجية , حصار قطر , اسباب
بعد مضي قرابة عام على حصار قطر فيما يسمى بـ الأزمة الخليجية ظهرت أصوات قطرية في السوشال ميديا وتحديداً في تويتر لأن الفيسبوك منتج لا يستهوي الخلايجة تماما مثل الفول والطعمية والحمص (سجلها نغزة عنصرية) هذه الأصوات القطرية تدعو إلى المصالحة الخليجية من خلال هاشتاق: الصلح خير، من باب إبداء الرأي والمشاركة وهو حق مشروع للجميع.
وهي دعوة خير سبقهم إليها الشيخ صباح أمير الكويت وثمنّها له الشيخ تميم أمير قطر.
في المقابل ظهرت أصوات تعارض أصحاب دعوى الصلح خير -وإبداء الرأي المعارض حق مشروع للجميع أيضاً- لكن بعض هؤلاء المعارضين تجاوزوا الحد المشروع إلى اتهام المخالفين بالجبن أو تغليب المصالح الشخصية أو ضعف الوطنية أو حتى العمالة لـ أعداء الوطن!
تذكر أنك تقرأ الآن تدوينة عامة في مدونة وسوم عبدالله السالم: مدونة شخصية قطرية ثقافية، لا بحثاً متخصصا في مجمع الفقه الإسلامي أو دار الإفتاء المصرية وبالتالي فسأوجز الحديث عن حكم الصلح، وأقصره على موضوعنا الخاص “المصالحة الخليجية ” كما يلي:
فإذا كان المختلفون في قبول دعوى الصلح خير في حصار قطر متفقين على هذه الخطوط العامة السابقة فمن أين جاء الخلاف؟
في المسائل العلمية والفكرية التي يختلف حولها أصحاب الصنعة الواحدة يكون هناك عادة سبب وجيه للخلاف، كالخلاف في الأصل الذي تفرعت عنه تلك المسألة المختلف فيها، أو لعدم انضباط المفهوم لتلك المسألة في الاصطلاح، فهذا يحكم عليها بحكم ما لأنه فهمها بمفهوم ما والآخر يحكم عليها بحكم آخر لأنه فهمها بمفهوم آخر.
أما في مسألتنا هذه فالمختلفون هم مجموعة غير محصورة ولا منضبطة من المعرفات الألكترونية المقنّعة أو غير المقنعة متفاوتة التعليم والثقافة والأعمار والخبرات ومتباينة التخصصات والاهتمامات ومتعددة الدوافع والأهداف.
لكن إذا استبعدنا كل هذه الفوارق واستخلصنا مجموعة من الشخصيات التويترية المعقولة التي نعرفها أو يشتبه أننا نعرفها فيمكن القول أن السبب الحقيقي في الخلاف هو عدم التواضع (الاصطلاح) على مفهوم الصلح الذي ينادي به دعاة الصلح خير.
وبالرغم من وضوحه وانضباطه كما أسلفنا في حكم الصلح إلا أننا هنا بصدد أناس يجهل بعضهم للأسف معنى المصطلحات الواضحة المنضبطة لعدم اشتغالهم على أنفسهم بالتعليم والتثقيف الكافييْن.
وإلا فمن البديهي أن المصطلح الواضح المنضبط لا يقبل الاختلاف حول مفهومه، وأيضا فالمصطلح الواضح المنضبط يجلب معه تلقائيا كل شروطه وضوابطه اللازمة عند إطلاقه، فعندما نقول الصوم أو البيع أو الزواج أو دول الخليج أو سوق الأسهم أو الصلح فإن المصطلح بنفسه يضم معه الشروط والضوابط اللازمة ويطرد الموانع اللازمة.
حصار قطر أنتج مجموعة من السلبيات والإيجابيات ذكرتها في مقالة سنة أولى حصار وما يهمني هنا هو موضوع السلبيات الناتجة، هل من الممكن تلافيها عن طريق المصالحة الخليجية ؟ وإذا أمكن ذلك فهل من العقل والحكمة عدم استغلال هذه الفرصة؟
وبما أن الصلح عبارة عن عقد بين المتنازعين لرفع النزاع ( أي لا يتصور أن يسمى الصلح صلحا وفيه إجبار أحد المتنازعين على التنازل عن أمر لا يريد التنازل عنه) ويجوز فيه لكلا الطرفين أن يشترط من الشروط ما يخدم مصلحته شريطة أن يرضى بها الطرف الآخر، فما المانع من المصالحة الخليجية إذا أثمرت عن إزالة السلبيات والحفاظ على الإيجابيات وإرساء ضمانات للحقوق وربما تعويضات عن الأضرار المادية والمعنوية؟
أبدا لا يوجد أي مانع، بل على العكس هذا ما يقتضيه الرشد والحكمة والتعقل والذكاء السياسي وقبل ذلك سماحة المسلم ومروءة العربي ومنطق العقلاء.
بل المعارض لهذا التوجه هو المتهم في رجاحة عقله وسمو نفسه وبعد نظره وشمولية رؤيته وموضوعية حساباته، وفوق ذلك جودة حصيلته المعرفية في شؤون الدين والسياسة والاجتماع والعلاقات الدولية.
يظهر مما سبق أن القائلين بمبدأ الصلح خير يستندون فيما ذهبوا إليه على موافقتهم للأدلة من الشرع والعقل والفطرة والقانون، فما هي أدلة الرافضين لفكرة المصالحة الخليجية ؟
الحقيقة أن ما يستدون إليه لا يصح تسمية أدلة، بل هي تشغيبات وأغاليط مدفوعة بالغضب والتسرع والطيش واستغلاق العقل وعدم المسؤولية.
والناظر في هذه الحجج الواهية يجد أنها في المجمل لا تخرج عن كونها ردود أفعال بدائية على أفعال صدرت من أشخاص مماثلين لهم في التوجه الطائش نفسه.
كما أنها أشبه ما تكون بمناوشات ومشاغبات بين فريقين من الصبيان في الحارة يفتقران للأهلية والجدية فيقول أحدهما بامتلاء :
لن تذوقوا حليب المراعي، فيرد الآخر بنزق : لا نريده، ويردف الأول : ولن نفتح الشبك، فيرد الآخر ولو فتحتوه لن ندخل، فيكمل الأول: الحل في الرياض، فيرد الآخر: الحل في الوجبة، وهكذا.
لذا حين يُطرح موضوع المصالحة الخليجية للنقاش فإن الفريق الثاني (القطري) يستشيط غضبا ويصبح بهلع : لا لا لا أريد الصلح لأني بهذا سأظهر بمظهر المغلوب وسيضحك علي الفريق الأول (السعودي والإماراتي) ويعايرني ويتمسخر علي ويقهرني.
وعندما يقرأ جملة الصلح خير فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه أنه سيجبر على مصالحة خصومه التقليديين في الحارة فلان وفلان وفلان وسيقبّل رؤوسهم معتذراً أمام الجميع على طريقة طلاب المدارس.
تقريبا هذه هي محصلة أدلة الرافضين لفكرة المصالحة الخليجية، يتمسخر علي ويقهرني، وكل ذلك في تويتر فقط.
وهم مقتنعون بقوة هذه الأدلة في مواجهة خصومهم وأنها أدلة دامغة تجتث دعواهم من جذورها، لذا قد تجد من يتساءل ببراءة واستغراب: كيف بالله أتصالح مع أناس كانوا يشجعون منتخب اليابان ضد منتخب قطر؟ أو قل بالله عليك كيف أتصالح مع أعداء لم يهنأونا بفوز منتخب قطر بكأس أمم آسيا؟ أبدا أبدا لا أستطيع ولا أحد يستطيع، هذا أمر فوق طاقة البشر.
بالطبع ليست هذه منطلقات الجميع في رفض الصلح ولكن تأكد أنها تشكل مادة علمية دسمة عند أحد ما.
قد يقول البعض لا، الأمر ليس بهذا التسخيف الذي تسوقه، وإنما نعارض أدعياء المصالحة الخليجية لأن القوم في دول الحصار آذونا بالفعل، حاصرونا وتهجموا علينا وعلى رموزنا في الإعلام وطعنوا في شرفنا وشرف محارمنا وخططوا لاحتلال أرضنا، بل إن أسباب حصار قطر الحقيقية ليست بهذه البساطة التي يروجون لها وليست وليدة اليوم.
والرد :
أولا: فالصلح لم يشرع في الأساس لخلق أو تنمية المشاعر الجميلة كالحب والصداقة وإنما لصد وتجميد المشاعر السيئة كالكراهية والعداوة، أي أن هدفه رفع النزاع وكف الأذى لا الجمع بين رأسين بالحلال.
ثانيا: نعلم جميعا أن ما نراه من التدني المخجل في لغة الإعلام الموجه ضد قطر من اتهامات وشتائم وفبركات مصدرها أشخاص وحسابات وظيفية تابعة لصاحب القرار الأعلى، وقد يتأثر بهذه البروباغندا عدد محدود من الجهال يتم احتوائهم أيضا، أما الأغلبية الساحقة فليسواء شركاء في الجريمة.
ثالثا: الصلح في هذه الأزمة المقصود به الشعوب، لا الأنظمة المؤقتة المنحرفة وأعوانها، هذه الشعوب المسلمة العربية التي لم تتغير مشاعرها تجاهنا ولا ذنب لها في حماقات أنظمتها، بل آلاف الأخيار منها في السجون والمنافي والمدافن المجهولة، وما قصة خاشقجي عنا ببعيد.
رابعا: أنه بالرغم من فداحة هذه المؤامرة الغاشمة التي عايشناها والأضرار الناتجة عنها إلا أن الصلح يستطيع أن يستوعبها أيضا، فإذا كان مبدأ الصلح خير صالحاً حتى بين فريقين بلغ حد النزاع بينهما أن يقتل بعضهم بعضا في حروب حقيقية ويسقط في ذلك عشرات ألوف القتلى كما في وقعة الجمل ومعركة صفين بين الصحابة وأتباعهم فهو فيما دون ذلك أصلح وأخير.
قال تعالى : ” وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا” الججرات :9.
لا يتصور عاقل أن الصلح المأمول سيكون عبر تنفيذ مطالب دول الحصار الثلاثة عشر، لا جميعها ولا بعضها، إذ لا يعتبر هذا صلحاً صحيحاً بل إخضاع وإذلال وتسلط، ولم تقبل قطر هذا التعدي في بداية الحصار فبالتأكيد لن تقبله بعد أن تجاوزت المنعطف الأخطر في خط ما بعد الحصار.
وأيضا لا يتصور التئام الجرح الخليجي العميق فور الإعلان عن مشروع المصالحة، هناك أنظمة وجهات وقنوات إعلامية وصحف وكتاب ومثقفون وشعراء وفنانون ومشاهير سقطوا سقوطاً مدوياً في هذه الأزمة وتكشفوا عن صفات دنيئة لا يمكن معها استعادة الثقة، والهدف من الصلح ليس استمالتهم أو الرضى عنهم أو الوثوق بهم، يكفي فقط أن يكفونا شرهم.
وبالطبع لا يُطالب أحد الأطراف المتنازعة سواء من طبقة الحكام العليا أو أتباعهم من السياسيين والإعلاميين بأن يتبادلوا القبل والأحضان وأن يقول كل واحد منهم للآخر: أنا آسف حبيبي، لن أعيدها مرة أخرى.
بل وليس من الضروري أن يكون الصلح على مستوى العلاقات الشخصية بين الحكام أنفسهم أو العلاقات السياسية التي تمثلها حكوماتهم.
فقد يكفي في الصلح قصر الخلاف على الحكام أنفسهم ودوائر الحكومة الرسمية التابعة لهم، والمصادقة على ميثاق شرف في الخصومة يحمي الشعوب والأفراد من تبعات المتغيرات السياسية، ويردع بحزم كل من يؤجج نار الفتنة ويوغر الصدور وينشر الأكاذيب والمساهمات الضارة خارج إطار التكليف الرسمي.
يترك للناس حرية الذهاب والعبور والتجارة بين الدول الخليجية، وحرية التفضيل الشخصي لهذا الشاعر أو ذاك الفنان أو هذا الكاتب أو ذاك الشيخ أو هذا المنتج أو تلك المغردة بعيدا عن الاستقطابات السياسية الضيقة.
أيضاً يترك للناس حرية أن يعجبوا بهذا الحاكم أو يحبوه أو يبغضوه أو ينتقدوه أو أن يتمنوا زواله قبل مغيب الشمس، هم أحرار في مشاعرهم وقناعاتهم تلك شريطة أن لا تسفر هذه المشاعر والقناعات عن تعبيرات مرفوضة تخرق ميثاق شرف الخصومة السابق ذكره.
وفي نهاية الأمر فإن الصلح الذي ينادي به المغردون القطريون في تويتر هدفه الأول هو تذكير الجميع بفضيلة الصلح وخيريته وتنقية الجو الاجتماعي المشحون بين الطرفين ليكون مهيأ للصلح عن طريق إسكات أصوات الداعين إلى القطيعة الشعبية الدائمة، والبحث المتواصل عن سبل معقولة لحل الأزمة.
أما استخدام دعوة الصلح خير لغير هدفها النبيل فهو مرفوض، كمن يلمز عبرها أنها علامة على قبول الاستسلام والرضوخ التام، أو من يلقي عبرها باللوم على قطر وكأنها من تسبب في الأزمة ومن يحمل لوائها، أومن يوجه الدعوة لقطر ويقصد بها الانصياع التام لمطالب دول الحصار وإرضاءهم بأي ثمن.
لدينا في دول الخليج قواسم مشتركة تطرقت إلى بعضها في مقالة: نحن والسعوديين ، هذه القواسم أكثر بكثير من عناصر الاختلاف المحدودة والطارئة، لدينا عوائل مشتركة ومصالح مشتركة ودين مشترك ومصير مشترك، وهذه القواسم المشتركة أكثر دواما وعمقا وثقلا من مجرد ارتجالات سياسية طائشة من قِبل أشخاص مؤقتين.
لذا يجب علينا في قطر التأسي بسياسة القيادة الحكيمة في ضبط النفس ولجم نزعاتها البشرية البدائية من الغضب والحاجة للانتقام ونحو ذلك، وترك الباب مفتوحاً لأي تغييرات سياسية قادمة أو توجه لخيار المصالحة الخليجية مع الإبقاء على القواسم المشتركة في المنطقة سليمة معافاة من عبث السياسة واستقطاباتها.
2 تعليقات
شكراً جزيلاً استاذ عبدالله على طرحك الراقي والمعمق ومقاربتك الرزينة في تناول هذا الموضوع المهم، وغيره من الموضوعات في مدونتك المتميزه.
عيسى الغانم 🌹