أهم آثار حصار قطر عندي أنها أسقطت أقنعة، وكشفت عورات مقززة، ولمّعت خناجر وسكاكين كانت مخبّأة في الظلام، وأصبح تجار الطحالب يتجولون تحت ضوء النهار في مستنقعات المياه العكرة، كل واحد منهم يحمل عدّته أمام الجمهور، شبكة مهترئة وسنارة صدئة ومايكروفون مزعج، ولحية مكوية أو كرفتة مستعملة أو شهادة مزورة، حسب متطلبات السوق والحدث الراهن.
الأزمة الخليجية أم حصار قطر؟
نسميها في العادة الأزمة الخليجية وأظنها مبالغةً في الحياد وعدم الانحياز، وإلا فاسمها الصحيح أزمة حصار قطر.
لأن لفظة أزمة في السياسة تفيد معنى انغلاق قنوات الحل بين قطبين فأكثر وبالتساوي، أي انغلاق القناة من طرفيها على حدٍّ سواء.
أما في أزمة حصار قطر فالانغلاق من طرف واحد وهو طرف دول الحصار، أما طرف القناة في قطر فهو مفتوح لم يُغلق منذ البداية.
فقطر لم تغلق الحدود أمام شعوب دول الحصار، ولم تغلق أجواءها أمام حركة الطائرات، ولم تتخذ إجراءات ضد من بداخلها من رعايا دول الحصار، ولم تسن قوانين لمنع الناس من التعبير عن تعاطفهم تجاه دول الحصار، وقبل ذلك لم تدفع وسائل الإعلام أو تسمح لها بالهبوط إلى مستوى مخجل من التحريض والفبركات والأخبار المزيفة والسباب واللغة السوقية.
كل هذا كان ولا يزال في الطرف الآخر من القناة، طرف دول الحصار، فأين الأزمة بهذا اللفظ الذي يفيد الاشتراك؟
أبدًا هو حصار قطر لا الأزمة الخليجية، ولو أصر إعلام دول الحصار على استخدام عبارة الأزمة الخليجية أو حتى مقاطعة قطر.
ورغم هذا، ما زال أميرها الشيخ تميم يؤكد في كل فرصة للحديث أن قطر باقية، تمد يدها للأشقاء في دول الحصار لحل الأزمة الخليجية، والانتقال إلى خطوة المصالحة الخليجية عن طريق الوساطة الكويتية أو أي طريق أخرى، بشرط أن لا يمس ذلك سيادة قطر، وحقها في حرية القرار.
والآن دعونا نلقي نظرةً على آثار حصار قطر الإيجابية منها والسلبية.
آثار حصار قطر الجيدة
هناك إيجابيات نتجت عن حصار قطر، بعضها عام وبعضها خاص، وسأجملها في نقاط، عليك أنت عزيزي القارئ التمييز بين العام والخاص بانتباهك وتركيزك.
سقوط الصنم
لسنوات طويلة، والمواطن الخليجي ينظر إلى حكام الخليج على حد سواء نظرةً تقديسيّة لا تقبل النقد والمراجعة، ومن آثار حصار قطر الإيجابية أن المواطن الخليجي بات يستطيع ويُسمح له بأن يميز بين الحكام، ويفاضل ويقايس وينتقد ويراجع بحسب مواقفهم وقراراتهم السياسية، وحكمتهم أو حماقتهم في التعامل مع الأحداث التي تمر بها المنطقة.
وبالطبع، فإنه حين يسقط الصنم تسقط معه جوقته من الإعلاميين والوعاظ والعلماء والأدباء والمشاهير وغيرهم.
تضييق دائرة الصنم
هذه متولدةٌ من النقطة السابقة، والقصد أنه حتى لو لم ينتفع المواطن الخليجي في السعودية مثلًا أو في قطر بشكل مباشر بسقوط الصنم في الإمارات أو عمان أو البحرين -إذ سيتحلزن داخل دائرته الحدودية الخاصة- إلا أن دائرة الصنم قد ضاقت قليلًا.
فبدلًا من نظرته إلى كل حكام الخليج تلك النظرة التقديسية، سيقصرها على حاكم دولته، وهذه خطوة للأمام في مسيرة إسقاط صنمية الحكام جميعًا حتى لو هو حاكم بلده، وسينظر إليه على أنه حاكم واجب الاحترام والطاعة لا التقديس، وهو شخصٌ طبيعيٌّ قابل للنقد والمراجعة والمعارضة.
تعليل التبعية
قبل حصار قطر، لو سُئل مواطن قطري لماذا تمدح حاكمك؟ ربما سيجيب لأنه حاكم، أو يزيد لأنه حاكم خليجي مثل البقية (علة تعبديّة).
البحريني سيجيب هكذا، وكذا الإماراتي والكويتي.. إلخ.
بعد حصار قطر، لم يعد يصلح هذا الجواب، سيفكر القطري قليلًا ليعلّل لماذا يحب حاكم قطر، سيبحث عن العلة المسببة، مستوى الرفاه، توفير الخدمات الأساسية، دعم ثورات الربيع العربي ربما، ربما دعم الشرعية في مصر، وربما وجود قناة الجزيرة، وهذه جل أسباب حصار قطر الحقيقية.
المهم أن كلّا سيبحث عن الأسباب التي يراها، المهم أنه سيفكر ويحدد علل وأسباب تبعيته ورضاه عن الحكومة.
ومجرد هذا التفكير سيحدد له في المقابل العوامل المضادة التي لا تعجبه ولا يرضاها ولن يذكرها، هذا التفكير صحي يقودنا للديموقراطية والتعبير الحر عن إيجابيات وسلبيات الحكومة.
ارتفاع سقف المأمول
هذه أيضًا متولدةٌ من النقطة السابقة.
المواطن القطري الذي سيعدد أسباب تبعيته ورضاه عن حكومته، سيجد أن هناك نقاطًا أخرى ليست موجودةً، ويتمنى لو وُجدت ليذكرها بفخر واعتزاز، حرية التعبير، الشفافية، تفعيل الشورى، وبهذا سيعلو لديه سقف التطلعات المرجو من الحكومة تحقيقها.
الالتفات للإنتاج الوطني
بعد حصار قطر، استيقظ الشعب والحكومة من غفلة الاعتماد الكلي على مطبخ الجيران، يجب أن ننشئ مطبخنا الخاص.
هذا أنتج لنا مزارع ومصانع وشركات خدمية جديدة، ولا يزال العمل مستمرًا.
الالتفات لتعدد خطوط التصدير
صادرات أي دولة مثل مبيعات أي شركة لمنتجاتها.
الشركات الكسولة تكتفي بالعملاء الموجودين، والشركات النشيطة لا تتوقف أبدًا عن البحث عن أسواق مُستهدفة جديدة، هذا أنتج لنا قنوات تصدير واتفاقيات تجارية وموانئ جديدة منها ميناء حمد الدولي، ولا يزال العمل مستمرًا.
وحدة الصف القطري
و هذه تكون إيجابيةً حين يكون التفاف الناس على مواقف محقة ونبيلة كما هو الحال الآن.
أما مجرد التوحد العنصري على باطل أو على لا شيء فهذه سلبية لا إيجابية، وحصار قطر وحّد القطريين الذين كانوا يختلفون ويتخاصمون على حملة مقاطعة شركة محلية، أو حتى تقييم مطعم في اللؤلؤة، أصبح لدى الناس همٌّ أكبر يجمعهم وترفّعوا عن تلك الولاءات الوهمية التافهة التي كانت تفرقهم، كما ساهم في قتل تلك النعرات الوطنية التي كانت تفرق بشكل عنصري بحت بين القطري والمقيم.
آثار حصار قطر السيئة
أيضًا هناك سلبيات نتجت عن حصار قطر بعضها عام وبعضها خاص، وسأجملها في نقاط، عليك أنت تمييز العام من الخاص بانتباهك وتركيزك.
قطيعة الأرحام
بعد حصار قطر، أُغلقت الحدود والمنافذ في وجه المواطن القطري من قِبل دول الحصار الأربع: السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وموريشيوس.
هذا بالرغم من وجود وشائج اجتماعية كثيرة وممتدة في التاريخ بين سكان قطر وشعوب الدول الأربع، ولم يعد القطري يستطيع الدخول لزيارة أرحامه.
انهيار مشروع الوحدة الخليجية
كنا نأمل إلى عهد قريب في دعم دول مجلس التعاون الخليجي لمشروع الوحدة الخليجيّة.
وبالفعل كانت هناك مباحثات ومشاورات لتنفيذ مشاريع مثل توحيد العملة الخليجية، وربط أكثر المدن الخليجية بجسور بحرية وسكك قطارات سريعة، بعد حصار قطر انهارت كل هذه المشاريع ومشروع الكونفدرالية الرئيسي.
تشويه السمعة
كثير من العوام في دول الحصار وغيرها يصدّق إعلام دول الحصار، الذي لم يعد له من شغل إلا شيطنة قطر والقطريين على مدار الساعة.
حدث هذا التصديق بسبب تأثير ضخامة وإصرار الضخ الإعلامي المتواصل في هذا المسعى المنحرف.
استعداء الشعوب
لم تكتف دول حصار قطر بالخصومة السياسية، بل فتحت المجال لكل من يرغب من الأفراد في الإدلاء بدلوه.
ولك أن تتخيل ذلك الدلو ممّ هو مصنوع وماذا بداخله؟ البعض جاهلٌ والبعض مأجورٌ والبعض إمّعة، والبعض فارغ والبعض يطقطق والبعض معبأ، ومع هذا يُشترط أن يكون متناغمًا مع سياسة دول الحصار، من حاد سيُحاسَب حسب قانون منع التعاطف.
استمراء اللغة الإعلامية الهابطة
مع ضخامة الضخ الإعلامي المتواصل بتلك اللغة الإعلامية الخارجة عن معايير المهنية، اعتاد الناس على هذا المستوى المتدني من الخطاب.
وللأسف تأثر الإعلام القطري أيضًا بهذا السقوط المهني، فأصبح ينتج لنا ردود أفعال بين الحين والآخر لا تليق بأخلاقيات العمل الإعلامي، كما أنتج لنا متحدثين في السوشال ميديا لا يختلفون كثيرًا عن أقرانهم السيئين من إعلاميي دول الحصار.
الإضرار بالاقتصاد القطري
الإيجابيات المذكورة أعلاه، المتعلقة بالشأن الاقتصادي عبارة عن حلول لامتصاص صدمة المفاجأة، وإيجابيتها ستتحقق بشكل واضح على المدى البعيد، لكن هذا مرهون بمدى ذكاء ونجاح المسؤولين الاقتصاديين للوصول لحالة من الاستقرار، والاستغناء التام عن الخطط القديمة التي تم إبطالها.
إن لم يحسن المسؤول الاقتصادي القطري التعامل مع هذه المعضلة، فسيكون حصار قطر مضرًّا بالاقتصاد القطري على المدى البعيد، وذلك لكمية الضخ المالي غير الربحي من قبَل الدولة للمحافظة على المكتسبات الوطنية من الرفاه ومستوى الدخل العالي، ومجانية بعض الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والكهرباء والماء.
نعم الحصار أوجع اقتصاد قطر لكنه لم يقتله كما أُريد له، والضربة التي لا تقتلك تقويك، وهذا سبب ثنائية التصريحات القطرية التي ينتقدها الخصوم، مرةً تقول التصريحات قطر بخير، ومرةً تقول حصار قطر أضرّ بها.
صعود طفيليات السلطة
لكل سلطةٍ مجموعةٌ من المطبلين والمنتفعين والشبيحة.
حديثي هنا عن طفيليات السلطة في قطر، إذ وجدوا حصار قطر أرضًا خصبةً لرفع أصواتهم وانتشارهم وظهورهم في كل منبر بدعوى الوطنية والدفاع عن الوطن.
هؤلاء في الأساس مجرد طفيليات براغماتية مصلحجية لا تختلف أبدًا عن أي طفيليات في دول الحصار، الفرق فقط أنهم من خلال الصدفة وجدوا أنفسهم في قطر لا إحدى دول الحصار، فمارسوا وظيفتهم الطفيلية، لكن هذه المرة مدعومةً بشعارات برّاقة مثل الحق والمظلومية والحصار.
وتفانيهم المبالغ فيه أحيانًا في دعم موقف حكومة قطر في أزمة الحصار، وقبله في دعم ثورات الشعوب العربية، لا لأنه يتفق مع قناعاتهم الشخصية عن الحق والعدل والصواب والقيم، وإنما لأنه فقط موقف الحكومة، صادف هذه المرة أنها حكومة قطر.
إسكات صوت الإصلاحي القطري
الأمم والشعوب والدول لا تقوم وتستمر إلا بوجود أفراد وجماعات وهيئات تمارس النقد والمراجعة لقرارات السلطة، وذلك لكشف مواطن الخلل ومن ثم إصلاحها.
وفاعلية هذا النقد مشروط بدراسة حجم الخلل، وكمية المتأثرين بضرره والظروف المناسبة والتوقيت الملائم.
فلا يصح مثلًا أن يكون بلدك في حالة حرب، وأنت تتجول بين المحاربين في خضمّ المعركة وتصرخ: أسعار البيض أسعار البيض، الحقوا أسعار البيض فقد ارتفعت بشكل خطير، على الحكومة أن تصلح هذا الخلل، هذا ليس من النقد البنّاء في شيء.
لكن أيضًا هناك أخطاء لا تقبل التأخير، كما لو كانت هذه الحرب اعتداءً سافرًا على مظلومين، هنا لك أن تصرخ بين المحاربين: أوقفوا هذه الحرب الغاشمة، لا تطيعوا السلطة.
حصار قطر حدث مؤسف ومضرٌّ بقطر وببقية الدول والشعوب الخليجية، لكنه لا يصل إلى حد تأخير كل المطالبات الإصلاحية كما لو كانت الحالة حالة حرب، لذا لا يصح إسكات كل صوت إصلاحي أو انتقادي بدعوى أننا في حالة حصار.
يجب أولًا النظر في حجم الخلل وأهميته، وقد رأيت هذا الإسكات من جموع من المغردين القطريين في تويتر، يشككون في نوايا كل من يصرّح برأيه في مسألة يراها من الخلل الذي يجب الإسراع بإصلاحه، ويطالبونه بالصمت والاصطفاف مع صفوف النواحين اللطامين على حصار قطر على مدار الساعة.
1 تعليق
ونعم ي ابوسالم والله يصلح الشأن.