الرؤيا والجنون والتصوف قراءة في قصيدة توجس الشاعر عبدالله السالم
بقلم : هايل المذابي – اليمن Strings1983@gmail.com
أولًا: نص توجس الشاعر عبدالله السالم
أتوجسُ ممَ؟
وهذي الغرائب تفضحني
حينما أتلبس صوفيتي
أقصد سوق المدينة
أفرش في باحة السوق وجهي
وأهذي وأهذي..
يرجمني صبية الحيّ
يبصقني العابرون
تدوس العجائز أرغفتي
– خالتي خالتي: الدرب لا يسعُ اثنين
– الضيق في القبر يا ولدي
– خالتي خالتي: فالقبر لا يسع اثنين
– عمتَ زفتًا أيا ولدي
أتوجسُ ممَ؟
وذي أنتِ في عهر سوق المدينة تسّاقطين على مهلٍ رطبًا مرمريًّا
وحزنًا عتيقًا أبوء به
وضياعًا إلى أجل لا يسمّى
أتوجسُ ممَ؟
دعيهم إذن يستبيحون عورة حزني
أأنبيك شيئا؟
أنا لا أبالي بهم
آلهة الحزن كانت تناول أطفالها لُعبَ الحزن عاريةً تتكشف مثلي
ثانيًا/ القراءة في توجس الشاعر عبدالله السالم
في كتابه “المجنون” يصف جبران خليل جبران كيف أصبح مجنونًا، فيقول أنه بعد أن سُرقت براقعه ولفحته الشمس صار مجنونًا، وفي قصيدة توجس عبدالله السالم يصف الغرائب بأنها من فضحته، والغرائب هنا تشبه حالة الشمس لدى جبران خليل جبران التي فضحت وجهه ولفحته، والشمس رمز للمعرفة فبرومثيوس الذي تحدى زيوس كبير الآلهة وسرق جذوة النار من الشمس سرق المعرفة في الحقيقة وأصبح رمزًا للثورة، ثم عاقبه زيوس بأن ربطه إلى صخرة كبيرة وسلّط عليه نسرًا جارحًا ينهش كبده أثناء النهار، ويتركه في الليل ليعود كبده في النمو من جديد ودواليك عقابًا أبديًّا.
ويعبر نزار قباني عن ذلك في إحدى قصائده بقوله: هل عندك شك؟
أنكِ عمري وحياتي
وبأني من عينيكِ سرقت النار
وقمت بأخطر ثوراتي؟
وبالعودة إلى قصيدة السالم نجد أن السؤال الجوهري في القصيدة هو ” أتوجسُ مم؟ ” ويتكرر ثلاث مرات فيها، لتأتي الإجابات رمزية تعبر عن حالة مريعة من الحزن والشعور بالخذلان، ويتجسَّد ذلك في أول مقطع حواري بعد أن يفصّل الشاعر ما يحصلُ له في سوق المدينة ومن صبية الحيّ وفعل العابربن، فيقول لخالته التي هي رمز للحياة إن الدّرب لا يتسع لاثنين، وهنا تظهر صورة خذلان الأصدقاء بجلاء وتظهر الخيانة من الأقربين، فتحاول بدورها أن تهوّن عليه وتصف القبر فقط بأنه يفعل ذلك، فيجيبها بحالة من اليأس مكررًا كلماتها حتى يصبيها الملل منه والتأفف لأنه لم يفهمها، أو لأن وضعه الذهني لايسمح بذلك..
يقول: أتوجسُ ممَ؟
وهذي الغرائب تفضحني
حينما أتلبس صوفيتي
أقصد سوق المدينة
أفرش في باحة السوق وجهي
وأهذي وأهذي..
يرجمني صبية الحيّ
يبصقني العابرون
تدوس العجائز أرغفتي..
الجنون حالةٌ فريدةٌ من نوعها، وهاجسٌ يراود العظماء، وكثيرٌ من القادة عادوا من ريادتهم مجانين، والسبب في ذلك أنهم لاقوا من الأهوال ما لا يُطاق، أو رأوا ما لا يحق لبشر بأيّ شكل من الأشكال أن يخترقه أو يراه.
وهنا أذكر ابن عربي وحديثه في كتاب “الفتوحات المكية” عن علم النظرة، فالشاعر يتحدث في بداية القصيدة أنه يلبس صوفيته، وفي عالم التصوف يصبح الجنون مختلفًا، فالإنسان ينعتق على ذاته عقلًا وشعورًا، وتتحد روحه بالروح العليا، تمامًا مثلما يحدث في نرفانية البوذيين، وسأتحدث قليلًا عن الرؤيا وعلم النظرة في عالم المتصوفة حتى لايتجاوز حديثنا حمى القصيدة، وسأطرح سؤالًا قبل ذلك عن الفرق بين الصوفي والشاعر؟
الصوفي والشاعر يتأملان وكلاهما يستكشف، وربما استطاع الصوفي أن يعبر عن رؤيته أحيانًا، ولكن في مراحلها الأولى، وعندما يوغل في الطريق يستعصي عليه أن يعبر عن تلك الرؤية.
أما الشاعر فإنه يعبر بمجرد أن يرى، بمعنى أن الرؤية وسيلته إلى التعبير.
والفرق الآخر أن موضوع الرؤية يظل واضحًا أمام الشاعر في كل لحظة، في حين أنه يختفي في التجربة الصوفيّة.
ومع أن بعض الشعراء أحيانًا كالسالم في قصيدته يمرون بتجارب شبه صوفية، إلا أنها تظل متميزةً عن التجربة الصوفية الصرفة في أن موضوع الرؤية والتأمل يظل قائمًا وواضحًا ومحددًا.
الرؤيا في دلالتها الأصلية هي وسيلة الكشف عن الغيب أو هي العلم بالغيب، والرؤيا لا تحدث إلا في حالة الانفصال عن عالم المحسوسات، ويحدث الانفصال في حالة النوم فتُسمى حينئذ حلمًا، وقد يحدث في اليقظة لكن ترافقها آنذاك البرحاء، والبرحاء أيضًا هي نوع من الانفصال عن العالم المحسوس، واستغراقٌ في عالم الذات، ففي الرؤيا ينكشف الغيب للرائي فيتلقّى المعرفة كأنما يتجسد له الغيب في شخص ينقل إليه المعرفة .
والرؤيا تتفاوت عمقًا وشمولًا بتفاوت الرائين، فمنهم ممن يكون في الدرجة العالية من السّمو، من يرى الشيء على حقيقته، ومنهم من يراه ملتبسًا، بحسب استعداده، فأحيانًا يرى الرائي في حلمه وأحيانًا في قلبه، وبقدر ما يكون الرائي بقلبه مستعدًّا لاختراق عالم الحس أو حجاب الحس، تكون رؤياه صادقة، ومن هنا تفضلها الرؤيا في الحلم، لأن خيال النائم أقوى من خيال المستيقظ، أي أن النائم يخترق بطبيعته حجاب الحس، ولذلك فإن الرائي بقلبه يكون بفضل البرحاء نائمًا عما حوله مستغرقًا في الرؤيا.
وابن عربي يشبه الرؤيا بالرحم، فكما أن الجنين يتكون في الرحم، يتكون المعنى كذلك في الرؤيا.
والرؤيا بهذا نوع من الاتحاد بالغيب يخلق صورةً جديدةً للعالم، أو يخلق العالم من جديد، كما يتجدد العالم بالولادة. والرؤيا تعنى ببكارة العالم، كما يعنى الرائي بأن يظل العالم له جديدًا، كأنه يُخلق باستمرار.
ومن هنا ضيقه بالعالم المحسوس لأنه عالم الكثافة، أي عالم الرتابة والعادة، وانشغاله بعالم الغيب الذي هو مكان التجدد المستمر من حيث أنه احتمال دائم..
ومن هنا يرفض الرائي عالم المنطق والعقل، فالرؤيا لا تجيء وفقًا لمقولة السبب والنتيجة، ولكن بشكل خاطف مفاجئ بلا سبب أو تجيء إشراقًا، إنها ضربةٌ تزيح كل حاجز أو هي نظرةٌ تخترق الواقع إلى ما وراءه، وهذا ما يسميه ابن عربي “علم النظرة” وهو يخطر في النفس كلمح البصر، وبما أنه يتم دون فكر ولا روية ودون تحليل أو استنباط، فإنه يجيء بالطبيعة كليًّا، أي لا تفاصيل فيه.
ومن هنا يجيء بالتالي غامضًا، فالغموض ملازم للكشف، سوى أنه غموض شفاف لا يتجلى للعقل أو لمنطق التحليل العلمي، وإنما يتجلى بنوع آخر من الكشف، أي من استسلام القارئ له فيما يشبه الرؤيا.. يقول عبدالله السالم:
“- خالتي خالتي: الدرب لا يسعُ اثنين- الضيق في القبر يا ولدي- خالتي خالتي: فالقبر لا يسع اثنين- عمتَ زفتًا أيا ولدي” والرؤيا من هذه الناحية تكشف عن علاقات بين أشياء تبدو للعقل أنها متناقضة، ولا يربط بينها أي شكل من أشكال التقارب.
وهكذا تبدو الرؤيا في منظار العقل متضاربةً وغير منطقيّة.
وربما بدت نوعًا من الجنون كما يفصّل الشاعر في قصيدته.. وينتهي عبدالله السالم في قصيدته بقوله:
” أتوجسُ ممَ؟ دعيهم إذن يستبيحون عورة حزني أأنبيك شيئا؟ أنا لا أبالي بهم” يقول ابن خلدون صاحب المقدمة: إن الرؤيا مطالعة النفس لمحة من صور الواقعات فتقتبس بها علم ما تتشوق إليه من الأمور المستقبلية، ثم يقرن الرؤيا بالجنون وهو ذاته ما نجده في قصيدة عبدالله السالم.
ويقول ابن خلدون عن المجانين في معرض حديثه عن أولئك الذين يُخبرون بالأحداث والكائنات قبل حدوثها بطبيعة خاصة فيهم يتميزون بها عن سائر الناس -كما يخبر الشاعر خالته في القصيدة- ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة، بل يتم ذلك بمقتضى الفطرة أي أنه يُلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها.
ولطالما قُرن بين النبي والمجنون في التقليد الديني القديم.
ويختتم عبدالله السالم بقوله:
“آلهة الحزن كانت تناول أطفالها لُعبَ الحزن عاريةً/ تتكشف مثلي “لأقول أن كل فنان حزين، مهما أُعطي من متع الدنيا، وجمالاتها وأمجادها، والحزن ملازم طبيعته فهو وحده أُعطي أن يرى حقيقة العالم، متميزًا بشفافيةٍ تمنحه رؤية مرايا الكون فيدرك بؤس الحركة، وحقارة المادة، وهول المصير!