الاهتمامات التافهة التي ابتلينا بها في الإعلام ما سرها؟ - مدونة وسوم الشاعر عبدالله السالم

هل أنا محافظ أم العصر ينحلّ؟

الاهتمامات التافهة

الاهتمامات التافهة , الغزو الفكري , اهتمامات , الاعلام , محافظ

اهتمامات الإنسان الطبيعي

حياة الإنسان والمجتمعات منذ فجر التاريخ خليط من الاهتمامات المختلفة، الجد والهزل واللعب والطرب والحزن والمزاح والعمل والتسلية وغير ذلك، أي خليط من الاهتمامات التافهة والاهتمامات القيّمة.

ورغم تعدّد هذه الاهتمامات، إلا أن السمة الرئيسية لحياة الإنسان هي الجديّة والعمل والإنتاج، وبشكل طبيعي فقد يمارس الإنسان تلك الاهتمامات التافهة وهو في طريقه لإنجاز واجبه الطبيعي المتّسم بالجدية والعمل وبقية اهتماماته القيمة والجادة.

فإذا وجدت هذه الأيام من يحاول العبث بهذه الطبيعة في حياة فرد أو مجتمع، ويحاول تغليب الاهتمامات التافهة على الاهتمامات القيّمة طيلة اليوم، الهزل على الجد، الرياضة والتسلية والغناء واللعب على الانضباط والإنتاج والتعلم والعمل فاتهمه في نواياه.

إن هذا العابث لا يكتفي بعبثه لنفسه، وإنما يريد نشره بين الناس، إذن هناك أهداف سرية تضمر الشر.

يقول ابن خلدون متحدثًا عن حكام الممالك:

وإذا اتخذوا الدّعة والراحة مألفًا وخلقًا صار لهم ذلك طبيعةً وجبلّة، فتربّى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد الترف، وينقلب خلق التوحش وينسون العوائد التي كان بها الملك من شدة البأس وتعوّد الافتراس وركوب البيداء وهداية القفر، فتضعف حمايتهم ويذهب بأسهم ويعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس من ثياب الهرم.

ثم لا يزالون يتلونون بعوائد الترف والحضارة والسكون والدّعة ورقّة الحاشية في جميع أحوالهم، وينغمسون فيها وينسون خلق البسالة الّتي كانت بها الحماية والمدافعة حتّى يعودوا عيالًا على حامية أخرى.

وربما يحدث في الدولة إذا طرقها هذا الهرم بالترف والراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصارًا وشيعة من غير جلدتهم ممّن تعوّد الخشونة، فيتّخذهم جندًا أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشّدائد.

وأنا أقول أن معظم بلداننا العربية قد أصابها هذا الهرم منذ سنين عديدة، والسبب في بقائها هو وجود ذاك الخيط الرفيع الذي يعلق به رجل السيرك الغربي الخفي أراجيزه على المسرح فتتحرك أمام الجمهور وتمشي وتتكلم، ولو انقطع الخيط لوقعت تلك التماثيل الميتة على الخشبة.

إعلام الاهتمامات التافهة

كلما ألقيتُ بنظري على ملامح عصرنا رأيتُ ما يصيبني بالوحشة والتوجس.

قنوات فضائية عملاقة وبرامج تلفزيونية عالمية ومهرجانات ودور إعلام ودور موضة وكتّاب ومشاهير وإعلانات، كلها تدعونا إلى الهزل والتسلية والتهاون والدّعة والانشغال بالهوامش والكماليات والاهتمامات التافهة، وقضاء حياتنا على هذا المنوال.

ولنأخذ مثالًا على ذلك، تجد قنوات عربية واسعة الانتشار مثل قنوات MBC أو LBC أو روتانا وغيرها، وبرامجها اليومية عبارة عن: حوار مع ممثلة، برنامج مسابقات، مسلسل غير ذي قيمة، رياضة، رسوم متحركة، وصلة رقص، مقاطع مضحكة، برنامج حواري عن أسباب إعجاب الفتاة بالشاب، برنامج طبخ، وهكذا..

هل يُعقل أن هذه هي هموم المُشاهد العربي ولا غير ذلك؟ ليس لديه من الهموم والاهتمامات إلا هذه الاهتمامات التافهة الهزلية؟

أنا قد أتفهم هذا في بلد حاز المراكز الأولى عالميًّا في كل مجالات التقدم والتطور، ولذا تصلح مثل هذه القنوات مكافأةً ترفيهيّة للمجتمع على إنتاجه وتفوقه، ولكن أن تكون القناة موجهةً لبلدان لا زالت تحبو في الصناعة والطب والتعليم والتنمية وحقوق الإنسان وأبجديات التّحضر، فهذا أمرٌ يدعو إلى الريبة.

وقد أتفهم دافع التاجر الذي يعزف على وتر الغرائز البشرية وجوانبها البدائية، ليسوق بضاعته ويتكسب بترفيه الناس وإضحاكهم دومًا.

لكني لا أتفهم أن يدعو إلى هذا التنويم المغناطيسي مثقف أو كاتب أو سياسي أو صاحب قرار.

سياسة الاهتمامات التافهة

من المؤكد أن معظم الأنظمة العربية تتعمد هذا الإلهاء لتخدير الشعوب وإشغالها عن الهموم المصيريّة الكبرى، كالحرية والديمقراطية والاستقلالية عن القوى العالمية، تفعل ذلك إكراهًا من القوى العظمى أو تطوعًا من ذاتها، ثم تقول بعد ذلك: الشعوب العربية ليست جاهزة للديمقراطية.

لذا تجد أن أول نصائح معمر القذافي لشعبه حين ثار عليه: أن ارقصوا، غنوا، انبسطوا، وكأنه يقول لهم عودوا إلى ما كنتم فيه من غي، ودعوا أمر الحكم والسياسة لي وحدي، أرجوكم لا تستيقظوا.

الغربة في عصر الاهتمامات التافهة

هذا التوجيه الجماعي للشعوب بأن تنشغل طيلة حياتها بماركات الموضة وأخبار الراقصات والفنانات والحمقى المشاهير وآخر وجبات المطاعم العالميّة وأنواع الآيسكريم الحديثة وتطبيقات الجوالات الذكية والألعاب الرياضية، أقول هذا التوجيه الجماعي من خلال البرامج التلفزيونية والمهرجانات ومشاركات النجوم في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الحديث، تجعل الإنسان العادي المعتدل يبدو وكأنه محافظٌ أكثر من الآخرين.

وأحيانًا ستجد من لا يكتفي بوصف المحافظ  فحسب، بل سيزيد: الرجعي المتخلّف السلبي المتطرف الداعشي، الخارج على الذوق العام والتوجه العام والرأي العام والطلب العام للمشاهدين.

وكأن الخيارات محصورة بين طريقين، إما هذا الاستسهال والتسطيح والتفاهة التي تُسوّق لنا كل يوم، أو الانضمام إلى داعش وجزِّ الرقاب وعلى بركة الله.

حسنًا، ماذا عن الحد الأدنى من الأخلاق؟ ماذا عن الحياة الطبيعية لشخص سويّ يمزج بحد معقول بين الجد والهزل؟ لأن هذا الطوفان الهزلي الذي يريد تحويلنا إلى دُمى متحركة ليس بوضعٍ سويٍّ أبدًا.

د. عبدالله السالم
د. عبدالله السالم
شاعر ناقد مدون من قطر

اترك لي أثرك