سقوط : مهدي بن سعيد
ديرها مغنى ترى صاحبك راعي هجـوس
شاعرٍ لاضاقت الأرض في عينـه قصـد
طوّل الليل التغلي وطـال بنـا الجلـوس
ياتـرى ثمـلـت فناجيلـنـا ولابـعـد
سالفتنا عجزت وانحنت ماهـي عـروس
احملت عشريـن مـرة ولاجابـت ولـد
ثوبها يستحضر اللون في كـل الطقـوس
جاهزٍ للضحـك الازرق وجاهـز للنكـد
كان عندك كذبـة ٍ ماتعريهـا الشمـوس
خلنا نبني بها فـي مـدى الصحـرا بلـد
غيرنا يبني مداين على روس الطعـوس
وان سألته قال الانسان يخلق فـي كبـد
حلمنا مقتول والقاتـل ايمانـه غمـوس
أي حلـمٍ نرتجـي فزعتـه وايـة وعـد
كل عام من اوله نشعـل الظلمـا دروس
والغريب ان آخر العام ( لم ينجح .. أحد )
لاتفاءل وجهك المنتظر وجهـه عبـوس
مثل وجهك ماعلى نظرتك فـال السعـد
من زمان ونحلتك هايمة بيـن الغـروس
لجت الرمان من شان تجمع لـك شهـد
مشكلتها حظها يشبـه لحظـك نحـوس
كلما جت عين زهرة لقـت فيهـا رمـد
شجرة الحظ ايبست عودها مليان سـوس
لاتـداوي يامـداوي ولاتشكـي لاحــد
مسحة جذعية
عدد الأبيات: 12 (مناسب)
الاتجاه الشعري: قصيدة حديثة
الغرض الشعري: وجداني
القافية: ـد (حرف الدال وما قبله متحرك)، والبعض يفضل زيادة حرف قبل الدال يعضده في القافية، والبعض الآخر لا يشترط هذا، ويرى أن مجرد تحريك ما قبل الدال كافٍ، وهذا رأيي.
تخدير موضوعي
مهدي بن سعيد من الشعراء القادرين على كتابة نص شعري عالي الإمكانيات، وذلك لتطويره المتنوع لأدوات الإبداع في القصيدة، وجاء تشريحي لهذا النص بناء على اقتراح أحد الأصدقاء وقناعتي المسبقة بجدوى النص.
كما أنه نوع من التنويع حيث اشتغلت في تشريحات سابقة على بعض النصوص التي تتطلب الكثير من العمل الإبداعي كي تسمو فوق أبجديات الأخطاء والنقص، والآن أنتقل إلى نص أبداعي لأبين مواطن الإبداع فيه.
وهذا النص “سقوط” للشاعر مهدي بن سعيد ، يصح تصنيفه ضمن النصوص الحديثة، حداثة واعية كما سبق الحديث عن سمات هذا النوع من التحديث في مقالات سابقة، حيث يتنقل الشاعر فيه بين عدة محفزات لإنجاح القصيدة، منها الغموض الشفيف، والابتكار، والاقتباس الذكي، والمحافظة على متانة البناء في اللفظ والمعنى، والوحدة العضوية للنص، وغيرها من العناصر .
إلى المشرحة النقدية ..
ديرها مغنى ترى صاحبك راعي هجوس
شاعرٍ لاضاقت الارض في عينه قصـد
لاحظ تجاهل الشاعر لكل القوالب الجاهزة من العبارات السائدة لافتتاحية القصيدة، مثل: بديت باسم .. ، يا ونتي، يا وجودي، ألا يا هجوسي، مع أنه استخدم كلمة هجوس في الصدر الأول ولكن بتوظيف حقيقي للكلمة.
ديرها مغنى: هذا ما يسمى بالابتكار في القصيدة، فأنت لو بحثت عن هذه العبارة في كل أرشيف الشعر فقد لا تجدها إلا في هذا المكان، مع أن العبارة لا تزال محافظة على قوة المعنى والسماع، فكثيرا ما نقول: اقلبها طرب، اقلبها مغنى، ومنها ديرها مغنى.
ثم لاحظ قوة الترابط بين هذه العبارة وبين الكلمات المتبقية في البيت من حيث تناسق اللفظ والمعنى، فأنت لو أردت التعبير عن هذا المراد لم تجد أقصر وأقوى من هذا البيت، لذا جاء سليما من الحشو والتكلف.
طوّل الليل التغلي وطال بنا الجلوس
ياترى ثملت فناجيلنا ولابعد
طوّل الليل التغلي: هنا ابتكار شعري آخر يحسب للقصيدة، وهو ما عبرت عنه في دراسات سابقة بدقة الوصف، أو الوصف المركب، أي: الرؤية المجهرية للتفاصيل الدقيقة في المادة الشعرية، سواء أكانت رؤية عامة، أو رؤية خاصة بالشاعر، وهو عامل يستعمل في السرد أكثر منه في الشعر، فإذا مزج الشاعر بين عوامل السرد والشعر في عمل واحد كما لو ركز بؤرة العدسة الشعرية على وصف المواقف والأشياء في مقطع صغير فإن الصورة تظهر بجمال متميز.
هنا مثلا أراد الشاعر أن يخبرنا أن الليل طوّل وطال بالسامرين الجلوس، لكنه لم يكتف بهذا الإخبار التقريري، بل دس في ثناياه خبرا أو وصفا جديدا وهو أن تغلي الحبيب ومماطلته في تحقيق رغبات العاشق في تلك الجلسة هو ما أطال الليل والجلوس، ولو أعطى عاشقه ما أراد بدون ذاك التغلي لكانت الجلسة أقصر وأسرع.
ثملت فناجيلنا ولا بعد: استعارة جميلة، فالفناجين لا تثمل وإنما أصحابها، ثم جاءت خاتمة البيت سؤالا، وهذا عنصر يضيف الديناميكية للعبارة حيث يستحث القاريء للمشاركة بعامل الخطاب، وكان السؤال قصيرا معبرا يستعمل موجة الكلام الدارج: ولا بعد؟ وهذا أيضا عنصر تقوية للعبارة.
سالفتنا عجزت وانحنت ماهي عروس
احملت عشريـن مرة ولاجابت ولد
ماهي عروس: هذا النفي يأتي في سياق تأكيد الخبر السابق: سالفتنا عجزت وانحنت، وفي رأيي أنه تأكيد لا طائل تحته، وإنما هو اتباع للقافية والوزن فقط، وإلا فالمعنى قد مضى عند الجزء الأول: سالفتنا عجزت وانحنت، لكن مثل هذه الزيادة تبقى في إطار العادي والمقبول حيث أنها أولا أتت بمفردة ذات مفهوم جديد لا يقابل المفهوم الأول حرفيا، فالعروس وإن جاءت في مقابلة العجوز قد تفيد معنى جديدا بعض الشيء وليست مثل المقابلة بين عجوز وشابة، وثانيا: لأنه لا يمكن أن تسلم قصيدة من مثل هذه العبارات الزائدة.
ولا جابت ولد: أي لم تتحقق أهدافها، والحديث لا يزال عن الجلسة التي أطالها تغلي الحبيب حتى أصبحت السالفة عجوزا منحنية الظهر ولم تحقق أهدافها، بالرغم من كونها حملت عشرين مرة، وهذا الرقم لا مفاد له وإنما جاء للإكثار فقط، ومع ذلك لم تنجب ولدا وهو أسمى غايات من ينتظر.
ثوبها يستحضر اللون في كل الطقـوس
جاهز للضحك الازرق وجاهز للنكد
لا يزال الحديث موصولا عن الجلسة التي طالت بتغلي الحبيب، وثوبها: أي ثوب سالفتنا العجوز سابقة الذكر.
والمعنى: أن طيلة هذه الجلسة والوضع مريب لا يستقر على شيء، فالأحاديث والضحكات والغمزات مستعدة لأن تكون طريقا للضحك والأنس تماما كما هي مستعدة لأن تكون طريقا للخصام والنكد.
الضحك الأزرق : هذه صورة مبتكرة غير مطروقة، كما أنها صورة معبرة جدا.
أولا : معبرة في ذاتها حيث أن الشاعر أراد أن يصف ضحكا هشا سريع التغير أو قابل له، وبما أن الأبيض لون الصدق والحقيقة والأسود لون المفهوم المعاكس لذلك فقد اخترع الشاعر لونا بينهما يصلح إطلاقه على المعنى المراوح بين النقيضين، فالضحك الأبيض ضحك حقيقي صاف، والضحك الأسود ضحك كاذب مخادع، فسيكون الضحك الأزرق ضحكا بينهما، وهو ما أراده الشاعر.
ثانيا : معبرة في توظيفها الإشاري في النسق الكلي لمفردات البيت الذي جاءت فيه، فالحديث كان عن ثوب يستحضر الألوان بطقوس مختلفة، ومن هنا اصطبغ الضحك وهو أحد الطقوس باللون الأزرق.
غيرنا يبني مداين على روس الطعوس
وان سألته قال الانسان يخلق في كبد
في البيت السابق كان الحديث عن كذبة/ حلم/ وهم، أما في هذا البيت فقد انتقل الحديث إلى الواقع برابط بناء البلدان في الصحراء، وهو فعل عسير يدل على المقدرة وتحقق الأماني البعيدة.
والهدف من هذا الانتقال هو مقارنة حال الشاعر العاجز حتى عن تحقيق أمنياته في جلسة العشق تلك بحال الغير المقتدر لدرجة بناء المدن على الرمل.
وجاء الاقتباس في قوله: وان سألته قال الانسان يخلق فـي كبـد اقتباسا منطقيا من حيث المسوغ اللغوي أولا والمعنوي ثانيا، أما اللغوي فقد أدرج الشاعر الجملة المقتبسة من قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) في معرض الرد على سؤال من سأل عن كل هذا العناء والمشقة، وأما المعنوي فكما سبق فإن سياق الحديث يتطلب وجود مسوغ سببي يدعو لبناء الإنسان المدن في الرمال، وكان الجواب أن هذه هي طبيعة البشر التي فطروا عليها، وهو تسبيب يحمل في طياته العبث واللهو وسعة المقدرة.
حلمنا مقتول والقاتل ايمانه غموس
أي حلمٍ نرتجي فزعتـه واية وعد
قاتل الحلم بالإضافة إلى كونه قاتل فإنه فاجر أيضا، وهو إمعان في استحالة تحقيق الأحلام ولذا جاء عجز البيت في شكل سؤال تعجبي ساخر فأضاف للمعنى بعدا تهكميا حزينا.
أيمانه غموس : أيمان جمع يمين، والغموس وصف يطلق على اليمين الكاذبة التي تغمس صاحبها في الإثم والنار.
ومع أن مجيء الأيمان بصيغة الجمع كان جميلا لإفادة معنى المبالغة في الوصف فيكون المعنى أن قاتل الحلم لكثرة كذبه كثرت أيمانه إلا أن إلصاقها بكلمة غموس التي تأتي دوما مفردة لوصف اليمين الكاذبة المفردة كان ضعيفا.
والغريب ان آخر العام (لم ينجح أحد)
وهذا أيضا من الاقتباسات الناجحة التي عرف بها الشاعر مهدي بن سعيد، فهو يوظف الجملة المقتبسة توظيفا متمكنا في المعنى بالتمهيد لمجيئها تمهيدا مناسبا، ومن ذلك التمهيد، ذكر كلمة أول العام فكلمة دروس، ثم كلمة الغريب وبما تحمله من استغراب واستنكار.
لاتداوي يامداوي ولاتشكي لاحد
هذا الشطر من الشعر الجزل، فهو يشبه كلام الناس الدارج ولكن في قالب شعري متين، محملا بالشاعرية واللغة الحكيمة.
النتائج المخبرية
قصيدة حديثة مطرزة بعوامل الإبداع المتنوعة.
نص شعري أعجبني، شكرا مهدي بن سعيد .