قيل: سمي الإنسان إنسانا لأنه كثير النسيان (مع أن هذا التحركش اللغوي مش مقنعني).
لا بأس نمشيها ..
أحزن على أولئك المسمرين في ذاكرتهم، إنهم تعساء بحق!
صحيح أن النسيان مرض لكنه مرض لطيف، وكلما زاد عن حده زادت أعراض المرض، لكن الحياة مجموعة من المواقف الجيدة والسيئة، وبما أنها الحياة، الحياة التي نعرفها جيدا فإننا موقنون أن سيئها أكثر من جيدها، فمن ذا الذي لا يريد أن يتخفف قليلا من هذه الذاكرة.
الحزن والألم والموت والمرض والفقر والحروب والخوف والإحباط وبقية المشاعر الإنسانية المتولدة جراء مواقفنا في الحياة، ومع ذلك فالإنسان يناضل للبقاء حيا معافى.
من منكم يتذكر فيلم الخمسين موعدا الأولى ( 50 First Dates ) ؟
وتجدد الحياة كل يوم في قلب الفتاة لوسي (الممثلة : دريو باريمور) واستقبالها لأحداث اليوم بنفسية جديدة وتفاعل تلقائي جديد؟
لوسي التي تعاني من ذاكرة قصيرة الأمد, النسيان، مما يعني أنه يتوجب على الشاب هنري روث (الممثل : آدم ساندلر) أن يجعلها تتذكره وتقع في حبه كل يوم لكي تستمر علاقتهما.
إنها تغرم في الأسبوع قرابة خمس مرات جديدة، ومعنى جديدة أنها تشعر بنفس التوق والإنجذاب الأولي للأشخاص الذين ننجذب لهم أول وهلة.
والجميل في فكرة انجذابها أنه شعور متجدد لا يرد إليه الرتابة ولا التعود ولا البلى، جذوة لا تخبو أبدا.
ثم أنها تعترف له كل مساء أنها تود تجربة القبلة الأولى على يديه، تفعل هذا كل ليلة تقريبا ولخمسين موعدا غراميا تجد لوسي كل واحد منها هو الموعد الغرامي الأول، يا لها من تجربة فريدة! هذا النسيان ليس مرضا بل نعمة، نعمة النسيان .
لي صديقة اسمها نعمة، ونعمة هذه لا تملك نعمة النسيان ، اسمها مجرد (كشخة) فقط.
أحزن على هذه النعمة من نقمة الذاكرة الممتدة، الذاكرة التي لا ترحم، الذاكرة الأرشيفية التي تبقيها دوما على حافة الوجع.
ولأن الحياة كما سبق مليئة بالأورام والانتكاسات والهدم فإن نعمة صديقتي تشعر دوما باحتقان شديد في روحها، أو هكذا أفترض.
إنها تمتلك ذاكرة تصويرية لا تغفل شيئا، في رأسها ملايين الصور المكدسة، وكلما واجهت موقفا جديدا استعادت فورا ماذا قالت الصورة لها قبل عشرين سنة.
تخيل أنك تتذكر كل التفاصيل الصغيرة والدميمة عن أحداث متفرقة مرت منذ سنوات، ليس هذا فحسب، بل إنك تستصحب مع ذاك التذكر تذكرك لمشاعرك الموجعة حينها، فأنت في وجع ممتد بامتداد ذاكرتك السكين، إنه بجد شيء مخيف.
قلبي معك يا نعمة.
ومع ذلك، أطمئنكم أن هذه المخلوقة النادرة لا تزال تتحكم بضحكتها الموسيقية، أو على الأقل تحاول وتنجح كثيرا، ولها روح شفافة جدا مثل الماء تخاتل بها صلابة ذاكرتها الفولاذية فتحتويها بمهارة إنسان يحسن استثمار الحياة.
……….
يا نعمة النسيان يا عونة الله
لولاك أنا عزّاه وش كان سويت
لو أذكر اللي راح دقه وجله
ما كان يومٍ في حياتي تهنيت
[خالد الفيصل]