القانون لا يحمي المغفلين ، مقولة فاسدة أضاعت الكثير من الحقوق - مدونة وسوم

القانون لا يحمي الطيبين

القانون لا يحمي المغفلين

القانون,قضية,القضاء,محاكم

ما شعورك لو عرضتَ نفسك على الطبيب لأنك مُصاب بالرّشح، وسألك إن كنت تعرّضتَ لهواء بارد، فأخبرته أن نعم.

استحميتَ، ثم خرجت مضطرًا، وهو ما تسبب لك بالرشح، وأنت تعرف ذلك، لكن التقصير حدث منك لأسباب أو بلا أسباب.

فالتفت الطبيب صوبكَ بوجهٍ خشبي، لا يحمل أيّة عواطف محدّدة، وقال بلغةٍ فصيحة مسموعة، حتى للجالسين هناك في استراحة الانتظار: عفوًا، لا علاج لك عندي فأنت مغفّل، والطب مثل القانون لا يحمي المغفلين، ولا يعالجهم!

هذا ما حدث أمام عينيّ، ولكن ليس من قبَل طبيب متخشّبٍ، وإنما من قبَل رجل قانون مبتسم، يقولها لرجل أشيب جاء يشتكي من سرقة بعض شركائه لثقته، واختلاسهم لمبالغ ضخمة من الشركة.

فكان الرد القانوني المعلّب والسمج وقليل الأدب: أنت مغفّل والقانون لا يحمي المغفلين، ولا أدري كيف أصبحتَ رجل أعمال! الأخيرة زيادةٌ قانونية مجانية من رجل القانون المبتسم.

المفاهيم المغلوطة عندما تستقر في الأذهان بشكلها المقلوب، تتحول إلى كارثة أخلاقية تقوض كل بناءٍ إيجابي.

وهذه المقولة الشهيرة التي لا أستسيغها “القانون لا يحمي المغفلين” من أكثر المقولات انتشارًا وقبولًا لدى العامة، على الرغم من مخالفتهم لها في مجتمعاتنا الطيبة، ولكن بسبب ترويج رجال القانون لها، مقلدين في ذلك أصحاب القانون الحديث، وهم في مجتمعاتهم المختلفة تمامًا.

كان الواحد منا يرفع سماعة الهاتف، ويقول لصاحب معرض السيارات: بع سيارتي التي عرضتها عندك وأخبرني عند إتمام ذلك، ثم ينام قرير العين، وبعد أيام يأتيه الاتصال: تعال خذ مالك 120 ألف ريال بالتمام والكمال.

ولا أحد يسرق أحدًا، ولا أحد يستغفل أحدًا، ولا نحتاج لقانون يحمي أو لا يحمي المغفلين الطيبين، بل مجرد التشكيك في الأمانة أمر أكبر لدى الشخص من كل أموال الدنيا، وكل الروادع القانونية، وبالتالي فهو بعيد عن كل ما يريب في هذا الخصوص.

ويخبرني أبي أنهم كانوا “يطرشون” على الإبل مسيرة أيام لأقرب سوق في المدينة، لشراء أساسيات المعيشة من العيش، والطحين، والتمر، والملابس، وأن كثيرًا من الباعة يكتفي بمعرفة الاسم، ويعتمد عليه حين يطلب أحدهم من البائع الصبر على دفع الثمن، حتى الطرشة التالية من السنة المقبلة.

فكان البائع يثق بالرجل واسمه، وكان الرجل يحمي اسمه من العيب والمنقود، فيفي بوعوده بلا أوراق أو ضمانات، أو قانون لا يحمي المغفلين.

حسنًا، أعلم أن هذا الجمال الإنساني انجرف بعيدًا مع تيار المادية والعصريّة، وأن الشركات أصبحت عابرةً للقارات، فلم تعد تعرف أسماء الرجال وتكتفي بوعودهم، كل هذا معروفٌ ومفهوم، لكن ينبغي أن لا نتسابق إلى محو كل عاداتنا وأطباعنا النبيلة، بدعوى العصرانية والحداثة.

والعيش بين جماعة كل واحد منهم ينتظر غفلة الآخر لينقض عليه سلبًا ونهبًا، لا يختلف كثيرًا عن العيش في غابة، وهنا فالقانون لم يأت إلا ليحمي المغفلين الطيبين هؤلاء، الذين عاملوا المجرم بكرم وشرف لا يستحقه.

هم الأصل وتصرفهم هو الحق، أمّا خيانة هذا المجرم المستغفل، فهو شذوذ يجب إثباته بشتى الطرق، ومن ثمّ معاقبته لا التساهل في إحقاق الحقّ بدعوى عدم توفر الأدلة، وإلقاء اللوم على صاحب الحق هكذا بكل بجاحة: أنت مغفل، والقانون لا يحمي المغفلين.

جاء رجلان يتقاضيان عند إياس بن معاوية، فادَّعى أحدهما أنه أودع عند صاحبه مالًا، فلما طلبه منه جحده، فسأل إياسُ الرجلَ المدَّعَى عليه عن أمر الوديعة فأنكرها، وقال: إن كانت لصاحبي بينة فليأتِ بها، وإلا فليس له علي إلا اليمين.

فلما خاف إياسٌ أن يأكل الرجل المال بيمينه، التفت إلى المودِع وقال له: في أي مكان أودعته المال؟ أي أعطيته.

قال: في مكان كذا، قال: وماذا يوجد في ذلك المكان؟

قال: شجرة كبيرة جلسنا تحتها، وتناولنا الطعام معًا في ظلها، ولما هممنا بالانصراف دفعت إليه المال.

فقال له إياس: انطلِق إلى المكان الذي فيه الشجرة، فلعلَّك إذا أتيتها ذكَّرتك أين وضعت مالك.

فانطلق الرجل إلى المكان، وقال إياس للمدَّعى عليه: اجلس إلى أن يجيء صاحبك، فجلس، ثم عاد إياس إلى من عنده من المتقاضين، وطفق يقضي بينهم، وهو يرقب الرجل بطرف خفي، حتى إذا رآه قد سكن، التفت إليه وسأله على عجل: أتظن أن صاحبك قد بلغ الشجرة؟ فقال الرجل: لا، إنها بعيدة من هنا، فقال له إياس: يا عدو الله تجحد المال وتعرف المكان الذي أخذته فيه!

هذا هو القضاء الحق، ولو كان في عصرنا لقال إياس بن معاوية للمدعي: هل لديك فاتورة أو سند قبض؟ فإن قال لا: صاح به بغبطة: اخرج اخرج أيها المغفل، والسبعة منك والباقي لك، القانون لا يحمي المغفلين.

ومشكلتنا القانونية تكمن في التقنين، صحيح أنه يحل مشكلات كثيرة لكنه يولّد أخرى.

فالتقنين حوّل العملية القضائية إلى خطوات مقننة، لكل خطوة شروط ومتطلبات ثابتة، ولم تعد هناك مساحة للاجتهاد والتجديد، بما في ذلك طرق الإثبات، فكل شيء يتّبع إجراءات روتينية، يستطيع تسييرها أي موظفٍ في القطاع القانوني والقضائي، حتى عامل القهوة إذا شد حيله.

ومشكلتنا الأخرى في التقليد واتباع القانون الدولي، وعدم تخصيص ثيابنا على مقاسنا.

فلدينا في الدول الإسلامية والشرقية قيم وعادات وأطباع وأعراف، لا تقل أهميةً وقوةً عن بنود القانون، وهذه العناصر يجب أن يكون لها مكان بارز في التشريع وعند التقاضي.

د. عبدالله السالم
د. عبدالله السالم
شاعر ناقد مدون من قطر

1 تعليق

  1. أصبت أخى فى إنتقاء العنوان

اترك لي أثرك