التعبئة الذهنية :ملء العقل بمجموعة من التصورات والأحكام المسبقة - مدونة وسوم

التعبئة الذهنيّة

التعبئة الذهنية

ما التعبئة الذهنية، وما مثالها؟

التعبئة الذهنية، هي فعلٌ يخلق الاستعداد الذهني المسبَق، الذي يلوّن أو يصنف رؤيتنا للأشياء المجردة أمامنا، وهو مصطلح جديد في علم النفس والإعلام الحديث، ابتكرته للدلالة على محتواه الذي سيتضح في المقالة.

مثال قبل

لو كنت تقود سيارتك في أحد الشوارع، فرأيت أمامك سيارة سوداء تقف عند أحد المشاة بجانب الشارع، فيركب سريعًا ثم تنطلق السيارة، ما تحليلك الأولي لهذا الموقف؟

هو موقف مجرد عن القرائن، ولا يترك لك خيوطًا تفسيرية تساعدك، لذا ربما لن تتوقف طويلًا في حل هذه المشكلة، بل لن تراها مشكلةً من الأساس.

مثال بعد

حسنًا، ماذا لو اتصل بك صديق قبل هذه الحادثة بقليل، وأخبرك في ثنايا حديث عابر أن (شارع الريّان) بات حقلًا لمروجي المخدرات، وقد زرعت هيئة مكافحة المخدرات في هذا الشارع عناصر أمنية كثيرة متخفية، ثم حدث الموقف أمامك، ما تحليلك الآن؟

الآن تمت تعبئة ذهنك بالمعلومات المبدئية مسبقًا، وقد تكون إشاعات أو تكهنات، وهنا ستبدأ ترى أشياء ما كنت ستراها لو لم تُزوَّد بهذه التعبئة الذهنية، التي تجعلك مستعدًا ومتهيئًا للتحليل والتفسير، وستبدأ تربط بين الأحداث الصغيرة والمتفككة، بآلية تستند على الاحتمال والتحامل أحيانًا.

ستفسر التفاتة الرجل الماشي إلى اليمين بسرعة قبيل ركوبه، على أنها إشارة انطلاقٍ للقناص أو العنصر المتخفي رقم 007، والقابع هناك خلف الستارة في العمارة البعيدة، وستبدأ تجد روابط خفية بين حركة السيارة السوداء، والسيارات الأخرى في الطريق، وحركة الستارة في العمارة البعيدة، وهكذا.
هذه هي التعبئة الذهنية.

حقيقة المثال

الموقف السابق قد يكون بريئًا للغاية، ولا علاقة له بكل التحليلات التي أجريتها عليه تحت تأثير التعبئة الذهنية، فالسيارة السوداء قد تكون لأسرة قطرية متواضعة وفي حالها، والرجل الماشي أبوهم المصاب بالسكري، والذي أنزلوه قبل ساعة ليمارس رياضة المشي اليومية، وأخبرهم بموقعه ليمروا ويركبوه معهم في طريقهم إلى المنزل، أما التفاتته السريعة؛ فكان قد سمع صوت قطط تتعارك في الأعلى، وريّح أعصابك يا شارلوك هولمز.

كيف تتم التعبئة الذهنية؟

التعبئة الذهنية قد تتم بطريقة عفوية كما في القصة أعلاه، وقد تتم بطرق مقصودة لتحقيق أهداف معينة كما في ساحات الحرب، أو دورات تطوير الذات المزعومة، وقد تتم بطرق فردية، وقد تتم بطرق جماعية وعلى نطاقات واسعة، كما في الحملات الإعلامية الـ بروباغندا، وما تروّج له من تضليل ومغالطات، وهنا تنتقل أساليب التعبئة الذهنية من البساطة والعفوية، إلى العمل المدروس والممنهج، الذي يوظّف كل العناصر المتاحة لعمليات الإقناع العقلي السريع.

سيطرة التعبئة الذهنية

قوة التعبئة الذهنية ليست في قيمتها الحقيقية، فهي ضعيفةٌ أمام المنطق والدليل والحق إن كان يخالفها، وإنما في أثرها المؤقت الذي تخلفه لدى الشخص المعبأ ذهنيًّا، فهو تحت تأثيرها يكون مندفعًا مقتنعًا، لا يرى إلا ما يريد ذهنه المعبأ رؤيته، تمامًا كمن يبحث في ساحة مليئة بالناس عن رجل يرتدي قميصًا أحمر، فهو لا يرى من يرتدي الأسود والأبيض والأخضر، ولو بدّل الرجل الذي يبحث عنه قميصه بلون أصفر فاقع لونه يسر الناظرين، ومرّ بجانبه لن يراه.

ضحايا التعبئة الذهنية

يختلف الناس في درجة تأثرهم بالتعبئة الذهنية، تبعًا لاختلاف شخصياتهم وخبراتهم ومستواهم العقلي والعلمي، وتبعًا أيضًا لقوة أساليب التعبئة، وعلى هذا سيكون أوّل الناس تأثرًا بالتعبئة الذهنية هو الإمعة، ضعيف الرأي، قليل الخبرة، متوسط التعليم، وأقلهم عرضةً للتأثر، هم أصحاب العلم والخبرة في موضوع التعبئة، وكذا الذكي، متفتح العقل، متقد الفكر، ذو الشخصية النقديّة، التي تمحّص الأحداث والمواقف.

مجال التعبئة الذهنيّة في أحداث العصر

الثورات العربية، أحداث كبرى استنفرت كل أفراد الشعوب العربية، على اختلاف مشاربهم، ومناهجهم، وقدراتهم، واختصاصاتهم، ومقاصدهم، لذا برزت عمليات التعبئة الذهنية على السطح بشكل جلي ومتكرر.

مثال 1

يتم التحذير في مصر من حركة شباب 6 أبريل، ملقيًا في الأذهان فكرة أنها جماعةٌ مريبة، تتعامل مع جهات خارجية، فيبتلع البعض الطُّعم، ويبدأ يربط بين التفاصيل المتعلقة بهذا الحزب السياسي تحت تأثير التعبئة الذهنية، ومن ثم يبدأ يترجم كل إشارة تصدر من أفراد الحزب، ويصنع شبكته التحليلية المتحاملة.

مثال 2

يتم التحذير من جماعة الإخوان المسلمين، وتعطشهم للسلطة لأجل السلطة فقط، ملقيًا بعض التشكيكات والتفسيرات والتحليلات، كقوله: إن وصل الإخوان في مصر إلى كرسي الرئاسة، فانظروا كيف سيبدلون شعاراتهم المتعلقة بتطبيق الشريعة، والتعامل مع إسرائيل وأمريكا وإيران، وهكذا، فيبدأ المعبَّأ ذهنيًّا يترجم كل الحركات والسكنات، وحتى الإشارات الدفينة، ضمن هذه التعبئة الدعائية ذات التأثير الظرفي.

حكم التعبئة الذهنية

التعبئة الذهنية ممارسةٌ إنسانية فاعلة، وغير مقصودة في الأساس، فالإنسان مدني بالطبع يحتك بالجماعة ويؤثر ويتأثر بهم، ويتفاعل مع أخبار ومواقف وقناعات الجماعة، إلا أنها تحولت في الجانب السياسي، والفكري، والتجاري إلى أداة ليست بريئةً تمامًا.

عندما تزيد التعبئة الذهنية عن الحد الطبيعي، وتحيد عن الهدف الإنساني الطبيعي أيضًا، تتجه إلى إنتاج ما يُسمى بالأحكام المسبقة، التي تحاكم الأفكار، والأحداث، والأفراد، والجماعات، بتنميط أعمى، وتعميم اعتباطي، عن طريق عملية التصنيف حسب القوالب الجاهزة، التي تتجاهل تعددية الواقع الحقيقي وتعقيده.

فمثلًا، ينتج من ذلك أن تجد شابًا مسلمًا، ليس لديه أي اعتراض شخصي على تسيُّد الإسلام والشريعة الإسلامية في المجال السياسي، وربما يتمنى حدوث ذلك، لكنه ينظر إلى جماعة الإخوان المسلمين بعدائية، ويحذر منهم ويتمنى زوالهم، ليس لأنه يعادي الإسلام، ولكن لأنه يتهم منهجهم السياسي بعد فوزهم في مصر منذ أقل من عام، وقد تسنّى له أن يحكم عليهم بهذه السرعة، وهو مؤمن تمام الإيمان بصحة حكمه، وبالتالي ساهم في إفشالهم لا فشلهم.

وشاب آخر، يتهم كل من يظهر في الإعلام بلحية متحدثًا عن الدين والاستقامة، أنه رجل دنيا وصولي منافق.

وآخر يتهم كل من ينادي بحقوق المرأة، أنه يقصد إفساد المجتمع والمرأة خصوصًا، وأنه منفذ لأجندات خارجية يتواصل مع جهاتها بسريّة.

وآخر يكتشف ما لا يكتشفه غيره، من وجود لفظ الجلالة الله، أو محمد، أو مكة في الأحذية والأدوات المنزلية، ويؤمن بوجود مؤامرة كبرى ضد الرموز الإسلامية من قبَل الشركات التجارية المصنِّعة!

هنا يجب أن نبحث لدى هؤلاء الشباب عن انحرافات التعبئة الذهنية، والأحكام المُسبقة.

د. عبدالله السالم
د. عبدالله السالم
شاعر ناقد مدون من قطر

اترك لي أثرك