ليبيا الجديدة بين الإسلام السياسي والمطامع الغربية، نظرة على ثورة ليبيا - مدونة وسوم

ليبيا الجديدة بين الإسلام السياسي والمطامع الغربية

ليبيا الجديدة الإسلام السياسي الثورة الليبية

لحى في الثورة الليبية

العالم الغربي والعالم الإسلامي، المُنصاع لكل الاتفاقيات الأمنية الدولية المتعلقة بالإرهاب، ينظر لكل ناشط سياسي، أو حزب، أو جماعة تكون مرجعيتها الإسلام -ولو بشكل ناعم كما هم جماعة الإخوان المسلمين وبقية نماذج الإسلام السياسي- نظرة توجس، فاتهام، فمحاربة، هذا قبل ظهور الثورة الليبية أو ليبيا الجديدة بوقت طويل، فكيف إذا كانت هذه المرجعية الإسلامية بلحية وسلاح مذخر؟

أصبح من مفاهيم العصر المستقرة، اعتبار كل جماعة إسلامية تحمل السلاح في سبيل قضية ما، وترفع بعض الشعارات الدينية الظاهرة، كذكر كلمة الجهاد، أو إطالة اللحية، أو الاستدلال في أدبياتها بنصوص القرآن والسنة، جماعة إرهابيّة أصولية متطرّفة محرّمة دوليًّا، وأفرادها عبارة عن مجموعة من المرضى المنبوذين، الذين لفظتهم المجتمعات المدنية، وهم في الغالب أشخاص غير أسوياء، ولا متعلمين، وينطلقون من قضايا ميتافيزيقية غائمة، تبيح لهم قتل الناس، وإثارة الرعب في المجتمعات المتحضرة، لذا فهم يعيشون دومًا في عزلة أفكارهم، وأماكنهم السرية.

وكان تنظيم القاعدة، وقائده أسامة بن لادن خير مثال على مثل هذه الدعوى الدولية، فحورب التنظيم من معظم الدول، وعُزل هو وقائده في مغارات جبال أفغانستان، مثل تورا بورا.

وبمجرد الاشتباه في أحد أنه ينتمي إلى تنظيم القاعدة، فإن هذا كفيل بملاحقته أمنيًّا، وإقصائه فكريًّا، وعدم فتح أي باب لمحاورته أو التفاوض معه.

وقد أسهمت أمريكا بشكل كبير في إشاعة هذا المفهوم الدولي بعد أحداث سبتمبر، وتعهدها للعالم بمحاربة الإرهاب، بدءًا بحرب أفغانستان، ثم العراق، وما صاحب ذلك من تدابير أمنية، واستراتيجية على مستوى العالم لحماية الفكر الدولي/ الأمريكي من الأفكار المضادة، وحصرت الإرهاب تقريبًا في الفكر الإسلامي الجهادي، المناوئ للإمبريالية الأمريكية.

ثورات الربيع العربي والغرب

أشعل الشاب التونسي بو عزيزي فتيل الثورات العربية المباغتة، والتي لم تكن معاهد ومراكز الدراسات الاستراتيجية الدولية قد تنبأت بحدوثها، وبالتالي لم تكن قد أعدت الخطط والدراسات اللازمة لاحتوائها.

فحدثت الثورة التونسية ثم المصرية في زمن قصير نسبيًّا، حيث بدأت الثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010، وانتصرت الثورة المصرية في 11 فبراير 2011، أي في أقل من شهرين، ثم تلتهما الثورة اليمنية، والثورة الليبية، في أيام متقاربة من نفس الشهر الذي سقط فيه النظام المصري الحاكم.

ثم اشتعلت المنطقة بالثورات الجانبية، والحراك الشعبي المهتاج، وهنا أدرك القطب الغربي ضرورة البحث له عن موطئ قدم في هذه الثورات، وعدم ترك الشعوب العربية تثور، وتسقط أنظمتها، وتصوغ دساتيرها وسياساتها، بمنأى عن الوصاية الدولية، التي تحفظ مصالح الدول العظمى، وتحافظ على موازين القوى راجحةً على الدوام في الكفة الغربية.

الإسلام السياسي في الثورة الليبية

كانت ليبيا هي الأقرب للغرب جغرافيًّا، والأهم سياسيًّا واقتصاديًّا، وزاد من أهمية هذا التدخل وفرة الأراضي الليبية بحقول النفط، التي يسيل لها لعاب الشركات الغربية.

ويدور في الأروقة الفكرية، أن هناك سببًا خفيًّا لضرورة التدخل الغربي في ثورة ليبيا، وهو علم أجهزة المخابرات الغربية، بوجود عناصر وقيادات إسلامية جهادية بين صفوف الثورة، فوجد الكيان الغربي نفسه مضطرًا للحضور في مسرح الثورة، إن لم يتمكن من المشاركة في تقسيم الكعكة البترولية، وتجيير النظام المستقبلي لصالحه، فعلى الأقل، للمراقبة الأمنية عن كثب، كيلا يُلقى زمام ليبيا الجديدة في يد الإسلام السياسي، الذي لا ينسجم كليًّا مع الفكر الدولي/ الغربي.

ولذا سارع الغرب للمشاركة فعليًّا في الثورة الليبية، متمثلًا في أمريكا، وفرنسا، وبريطانيا، ثم في أقوى التحالفات العسكرية الغربية، وهو حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكثرت التصريحات المنفردة من دول ذات ثقل دولي، مثل أمريكا، وفرنسا، وبريطانيا، والتي تثير مسألة التدخل العسكري المباشر على الأرض بين الفينة والفينة، بطريقةٍ هدفها الأول قياس مدى ردود الفعل على هذا التدخل المحتمل.

الثورة في تونس ومصر كانت ثورةً شبابيةً بامتياز، مجموعات كبيرة من الشباب تلتقي ببعضها، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة الإلكترونية، مثل فيسبوك وتويتر، وتتفق على التجمع في تلك الساحة وذاك الميدان، مرددين شعارات سلمية ناعمة تطالب بسقوط النظام، وهي أهازيج في أغلبها تعتمد على السجع الطربي الهزلي، وقد تحتوي على شيء من النكتة والظرافة مثل: “يا مبارك قول الحأ (الحق) إنتا حرامي ولا لأ” أو قولهم: “بن علي بيناديك، فندق جدة مستنيك” وغير ذلك.

أما الثورة في ليبيا فكانت مختلفة تمامًا عن سابقتيها، فهي بدأت منذ انطلاقتها الأولى أكثر نضجًا وجديّة، وأعمق تخطيطًا وأشد صلابةً، وتحولت بسرعة إلى حركة مقاومة مسلّحة، ذات مجلس انتقالي، يعمل بأدوات معاصرة ذكية، فيتواصل مع الإعلام الدولي، ويرسم الخطط والاتفاقيات الجادة، للإطاحة بنظام القذافي.

ومن ذلك استعانته بقوات خارجية في المجال العسكري، والاقتصادي، واللوجستي.

وكان المراقب يلحظ من بداية الثورة، تلك السمة المنعكسة على هيئة بعض أعضاء الثورة، ومضامين خطاباتهم، فالملاحظ النّبيه، لن يخفى عليه كثرة الملتحين في صفوف الثورة الليبية، وترديدهم لبعض الشعارات الدينية، التي تكشف عن خلفيتهم الإسلامية المتدينة، كالتكبير والتهليل والاسترشاد بآيات من القرآن، أو حتى تعاملهم المحترف مع الأسلحة، والتي تكشف عن التدريب العسكري الطويل لبعض أفراد وقيادات الثورة.

ورئيس المجلس الانتقالي، وزير العدل السابق الشيخ مصطفى عبد الجليل رجلٌ لا يمكن إخفاء توجهه الإسلامي الظاهر، وقد شهد له بعض الرؤساء الأوربيين، مثل ساركوزي، وكاميرون أنه كان يقطع الاجتماع ليذهب إلى الصلاة، وأنه كان يذهب ليصلي الفجر في أحد مساجد المدينة.

أما رئيس المجلس العسكري للعاصمة الليبية طرابلس، وفاتحها عبد الحكيم بلحاج، فبمجرد ظهوره في الإعلام، بعد دخول مدينة طرابلس في عملية فجر عروس البحر، بدأ العالم على الفور بالتفتيش في أوراقه القديمة، بدايةً من خروجه عام 1988 من ليبيا، وانخراطه في الجماعة الإسلامية المقاتلة، حتى أصبح أميرها في أفغانستان، حيث ذهب للمشاركة في الحرب الأفغانية ضد السوفييت، وهناك تحول إلى قائد عسكري، ينتمي إلى الفكر الإسلامي الجهادي المناهض للقيم، والسياسات الغربية في المجمل.

وعاش حياته مطاردًا متنقلًا بين دول الشرق بالخفية، إلى أن وقع في الأسر على يد المخابرات الأمريكية، التي سلمته إلى نظام القذافي عام 2004، وبقي في المعتقل قرابة الست سنين.

ومن المؤكد أن وجود هذا القائد الجهادي في صفوف الثورة، يعني وجود مجموعة من أتباعه، ورفقاء دربه، وشركائه في الفكر بجانبه، قد يساهم في تشكيل خارطة ليبيا الجديدة، القائمة على تمكين الإسلام السياسي القوي.

الإسلام السياسي والغرب في ليبيا الجديدة

الثورة الليبية التي توشك على ولادة ليبيا الجديدة، جعلت أمريكا وأوروبا مضطرةً للتصالح مع الأشخاص الذين كانت تضعهم بالأمس على قوائم الإرهاب المطلوبة في محطات العالم.

تصالحٌ يعلم الغرب أن الإسلاميين في الثورة الليبية واعون جيدًا لأهدافه وأبعاده ومطامعه، وبالتالي فإن الأمر قد تحول إلى لعبة خطرة، كلا الطرفين يقامر فيها بأوراق لعبه على المكشوف.

فالإسلاميون في الثورة الليبية، يعلمون مدى احتياجهم إلى المظلة الدولية لشرعنة حربهم ضد نظام القذافي، وكسب تعاطف المجتمع الدولي، وللاستعانة بطيران الناتو، لتجميد قوات القذافي الجوية والبرية، وهم يفعلون هذا في إطار الاجتهاد الإسلامي العسكري، الذي يبيح الاستعانة بعدو لمحاربة عدو آخر آكد عداوةً وأشد خطرًا.

وتكون الاستعانة حاجةً مؤقتةً ومحددةً كمًّا وكيفًا، حسب الظرف العسكري الذي متى ما زال زالت.

ورغم هذا، فإنهم متخوفون من مغبة إشراك القوات الغربية في ثورتهم الداخلية، إذ إنه لا يمكن لأحد التنبؤ بمجريات الأمور في المستقبل، ولا يأمن الليبيون الجدد طمع الجانب الغربي في البقاء بعد انتصار الثورة في الأراضي الليبية، بمسوّغ أو دون مسوّغ، وقد حدث هذا في منطقة الخليج العربي بعد حرب تحرير الكويت.

وفي المقابل، فإن الغرب شارك مضطرًا في دعم الإسلام السياسي في الثورة الليبية لأسباب مختلفة، أهمها مراقبة الوضع الأمني والسياسي في ليبيا عن قُرب، واختلاق مبررات للتواجد في أرض المعركة، ليتسنى له عقد الاتفاقات الجانبية، واختراق الصف الليبي، ودراسة العقليات والتيارات، والشخصيات المؤثرة في رسم السياسة الجديدة، وبالتالي فإن الغرب مكرهٌ على التعامل مع الإسلام السياسي، من باب محاولة احتواء الموقف الخارج أساسًا عن السيطرة الغربية، كبقية الثورات العربية.

وهناك سبب آخر لا يملك الغرب التأكد من تحقق جدواه، إلا أن احتمال تحققه كفيلٌ بالمغامرة في دعم الإسلام السياسي على مضض، وهو الادعاء لاحقًا بأن الثورة الليبية، وعملية إسقاط نظام العقيد معمر القذافي، لم تنجح إلا بمساعدة ومباركة الدول المدنية المنحازة لحقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، ومن هنا فإن هذه الدول لها يد فضل على ليبيا الجديدة، ولها الحق بعد ذلك في التدخل لحماية خط سير مسعاها الإنساني النبيل.

وكل واحد من الطرفين لا يستطيع إخفاء توجسه من الآخر، من خلال التصريحات والبيانات المتفرقة لكل منهما، أو حتى من خلال العمليات الميدانية، والخطط العسكرية، وذلك لإدراك كل واحد منهما لحجم ما سيدفعه من ضريبة نتيجة مد يده للآخر.

تردد الغرب في دعم الإسلام السياسي في ليبيا الجديدة

الجانب الغربي منذ البداية، لم يكن واضحًا تمام الوضوح إزاء عملية السعي الجاد والمستمر لإسقاط نظام القذافي، ولم يكن ناصحًا تمام النصح في مساعدة الثوار، لتحقيق هدفهم ذاك.

وقد تباطأ كثيرًا في إنجاز عمليته العسكرية المرجوّة، على عكس إسراعه في قصف الطائرات الليبية في مرابضها، لضمان حرمان ليبيا الجديدة من القوة الجوية.

بل أن بعض العمليات العسكرية على أرض المعركة، كانت مدعاةً للشك في أن الغرب يقوم بدور مزدوج بين القذافي والثوار، وذلك بقصد الهيمنة على المجلس الانتقالي، بإبقائه تحت تهديد قوات القذافي، وإبقاء القذافي تحت تهديد ضرب قواته، إلى أن يتحكم الغرب في الحل السياسي الذي يُراد منه تحديد مستقبل ليبيا الجديدة.

كما يُستفاد من هذه المماطلة إطالة مرحلة الفوضى، وتفتيت عناصر القوة لدى كلا الطرفين (نظام القذافي والثوار)، مما يتيح المراهنة على من سيبقى منهما لينتصر.

فمثلًا  كانت طائرات حلف الناتو تمر من فوق آليات القذافي العسكرية المكشوفة، وهي تقصف الثوار بشكل متواصل، ولا تقوم الطائرات بأي تدخل، كما بقيت خمس بوارج حربية تابعة لقوات القذافي تقصف مدينة مصراتة من المياه الإقليمية، ولمدّة أسابيع، تحت نظر الطيران الذي يمرّ من فوقها ولا يحرك ساكنًا.

ومثال آخر: تم الإعلان الرسمي على نطاق واسع من قبَل الإدارة الأمريكية والأمين العام لحلف الناتو راسموسن، ومن قِبل السّاسة البريطانيين والفرنسيين “أن لا حلّ عسكريًّا للصراع في ليبيا”. (لا حلَ عسكريا) في النفس من صحتها اللغوية شيء!

وهو الذي عكسَ الممارسة العسكرية لطيران الناتو، في إبقاء مصراتة والزنتان ومناطق أخرى تحت القصف الوحشي، حيث استشهد من المدنيين خلال قرابة خمسة أشهر، أضعاف ما استُشهِد منهم قبل التدخل العسكري.

أما على مستوى التصريحات الإعلامية، فإن الإدارة الأمريكية بُعيد انتصار الثورة في طرابلس، والحضور الشعبي والإقليمي لقادة الثوار، قامت تحذر المجلس الانتقالي من التساهل مع المتطرفين، وبدأت تلمح إلى وجود عناصر إرهابية في صفوف المجلس الانتقالي، هذا المجلس الذي اعترفت به رسميًّا، ومدّت له يد العون طيلة أشهر الثورة.

على صعيد آخر، أبدت صحيفة الغارديان اللندنية قلقًا مفاجئًا لدور دولة قطر في الثورة  الليبية، وهي اللاعب الرئيسي العربي في إنجاح الثورة، متهمةً إياها بتنفيذ أجندة سرية خاصة لتمويل أشخاص ينتمون إلى تنظيم القاعدة، وينضوون تحت راية المجلس الانتقالي.

بالإضافة إلى الاستماتة الغربية في نسبة الثورة ونجاحها إلى الناتو، أو الجانب الغربي الفرنسي البريطاني الأمريكي.

أما الطرف الإسلامي، فيتمثل قلقه في التصريحات الدائمة للمجلس الانتقالي منذ بداية الثورة، بأنه لا يريد تدخلًا أجنبيًّا، بالرغم من رضوخه للحاجة العسكرية الخاصة، التي تنازل لأجلها مؤقتًا عن بعض مبادئه العامة، واستعان بالناتو وبعض الدول الأجنبية، ولذا اكتفى بالتدخل المحدود والنوعي، والمتمثل في الغطاء الجوي فقط، أما القوة الأرضية، فكانت ليبيةً خالصةً بسواعد أبناء ليبيا فقط.

وقد ظهر جليًّا شدة اهتمام الثوار بنشر هذه الصورة في عملية تحرير طرابلس، حيث قدّم الثوار للإعلام العالمي شخصيةً عسكريةً ليبيّةً، هو قائد عملية فجر عروس البحر، لتحرير طرابلس من قبضة القذافي، ورئيس المجلس العسكري عبد الحكيم بلحاج، فيما كان المشاهد لحرب العراق وأفغانستان، يرى على القنوات التلفزيونية الدبابات الأجنبية، وهي تفتح مدن تلك البلدان بشكل مؤذٍ لمشاعر المشاهد العربي.

السيناريو المُتوقع لمستقبل ليبيا الجديدة

لا شك أن للتدخل الخارجي في الثورة الليبية ثمن ما، اقتصاديًّا كان أم سياسيًّا أم استراتيجيًّا، وهذا ليس بخافٍ على الثوار حينما قرروا الاستعانة بتلك القوى الخارجية، إلا أنه من المستبعد تكرار الوضع كما في أفغانستان والعراق، لأربعة أسباب:

السبب الأول: أن الثورة في ليبيا انطلقت أساسًا من الداخل، متأثرةً بمناخ الربيع العربي العام، لا بناءً على اتفاقيات سرية سابقة، حُبكت في الخارج.

السبب الثاني: التدخل الخارجي محدود بالغطاء الجوي فقط، أما القوات الأرضية فهي محصورة في الثوار الليبيين، وهم قوة شعبية ضاربة، تمتلك السلاح والهدف الموحد.

السبب الثالث: المسحة الإسلامية البادية على صفوف الثوار، تعكس التوجه الإسلامي السائد في المجتمع الليبي، والخلفية الإسلامية تنطلق من منطلقات دينية واجتماعية، تعارض فكرة بيع الوطن لأجل مصالح دنيوية.

السبب الرابع: الثورة الشعبية التي تحمّلت الخسائر في صفوفها، وقدمت العديد من الشهداء في سبيل الخروج على الظلم والظلامية، وتبديد الثروة والاستئثار بالسلطة، والاستبداد في نظام القذافي، لن ترضى بتسليم البلاد بعد انتصار الثورة إلى عناصر أجنبية.

إذًا فالجانب الغربي يريد أكثر من مجرد دفع مصاريف الغارات الجوية، وثمن الوقود والأسلحة والمعدات من المال الليبي، أما الثوار كما هو ظاهر في تصريحاتهم المتكررة، وكما هو معلوم من الخلفية العقدية الدينية للفكر الإسلامي، لا يُتوقع أنهم سيعطون الغرب أكثر من هذا المقابل، وربما يزيدون عليه قليلًا باتفاقيات اقتصادية لإنتاج البترول الليبي.

أما التدخل طويل الأمد، والمشاركة الاستراتيجية في رسم السياسة الليبية الحديثة، فهو مطلب عسير لن يتهاون فيه الثوار، وهنا قد تنقلب الأمور رأسًا على عقب، ويبدأ الغرب في تأليب الرأي الدولي ضد ليبيا الجديدة، من خلال شعارات التأجيج الإعلامي المضاد، كما فعل ضد الصين وإيران، أو من خلال دعم شخصيات أو تيارات من داخل ليبيا، إن لم تستطع استعادة زمام الأمور، فعلى الأقل إفساد نجاح ليبيا الجديدة.

ورطة الإسلام السياسي بالمنظومة الدولية

هنا يأتي دور الإسلام السياسي في ليبيا، لامتصاص الإدانة الدولية بتقديم نموذج عن الإسلام السياسي الحديث، الذي يهتم أولًا بالتنمية الوطنية، وتفعيل دور المؤسسات والقانون المدني، ويكسب الولاء الشعبي من خلال سياسة توزيع الثروة، وتدويل الحكم في مسار ديمقراطي منصف، والبعد عن خلق العداوات الدولية.

والمتابع لتصريحات الثوار السياسية، يدرك أن المنطقة مقبلة على حراك سياسي جديد، على الرغم من إسلاميته الواضحة، إلا أنه يتسم بالمرونة والثقافة السياسية العالية.

إذا حدث هذا فإن الإسلام السياسي في ليبيا الجديدة سيواجه مشكلتين يصعب التعامل معهما:

أولا: الخضوع التام للإملاءات الأمريكية، وهو ما تسميه أمريكا بالمنظومة الدولية، أو النظام العالمي، وتُدخل وتُخرج الدول من هذه المنظومة، بناءً على مواقفها الموافقة أو الرافضة لسياستها الإمبريالية.

وذلك أن الإسلام السياسي المسيطر في ليبيا الجديدة، سيصطدم كثيرًا بمصالح وقناعات غربية/أمريكية على وجه التحديد، مثل تسليم المطلوبين من خلال برنامج التعاون الدولي ضد الإرهاب (Rendition )، أو السماح باستخدام الأراضي الليبية للاستعمال العسكري أو اللوجستي، ضد بلد حليف أو صديق، وغير ذلك من المصالح والقناعات المتعارضة.

ثانيا: الموقف الحقيقي من الكيان الصهيوني (إسرائيل)، لا الموقف الرسمي فقط، إذ العديد من الدول الإسلامية والعربية تصرح رسميًّا برفض إسرائيل، لكنها تتعامل معها في الخفاء أو بطرق غير مباشرة، لمصلحة أو تحت ضغط أمريكي، وهذا ما لن يحدث في ليبيا الجديدة التي ستنظر لإسرائيل نظرةً واحدةً في الخفاء والعلن، وهي نظرة الرفض التام.

د. عبدالله السالم
د. عبدالله السالم
شاعر ناقد مدون من قطر

5 تعليقات

  1. الأخ سليم نصر الرقعي: أهلا بك وأشكرك على إبداء رأيك المتحامل قليلاً :)
    التدوينة أعلاه تتعلق بالثورة الليبية ومستقبل ما بعد الثورة.
    بالطبع تطرقت في التدوينة للعنصر الإسلامي الواضح في سحنة بعض أفراد الثورة، لكن في الغالب لا يوجد كبير فرق في موضوعي الأساس بين إذا كانت قيادة ليبيا الجديدة إسلامية بالمفهوم الشائع أو مسلمة فقط.
    شريطة أن يكون إسلاما حقيقيا يمنع الظلم والخيانة والتآمر على مصلحة المسلمين.
    لكن يبدو أن لديك ما تود قوله عن أثر جماعات الإسلام السياسي على الواقع الذي نعيشه وتحملهم نتائج ثورات الربيع العربي اليوم، وهذا مالا أتفق معك فيه.
    خصوصاً أنك تضع كل جماعات التأثير الإسلامي السياسي في سلة واحدة، الجهاديين والسلميين ومع ما يتفرع منهم من تيارات متشددة أو معتدلة أو متراخية بل وحتى القوميين لشبههم بهم، ثم تحكم عليهم بحكم واحد : مسؤولية فشل الربيع العربي أكثر من غيرهم.
    ولا أدري وأنت المثقف العربي المسلم ما هو النموذج المتبقي لديك كي تعفيه من المسؤولية!
    وبالفعل الحديث يطول في هذا الموضوع.
    تمنيت لو أن ردك هذا كان على تدوينة أخرى هي أقرب لموضوعك الذي توسعت فيه، تدوينة تتطرق لحكم الإخوان المسلمين في مصر بعد الثورة كما في الرابط.
    تقبل تحياتي وتأكد أني سعيد بمداخلتك وإثراء النقاش.

  2. هذه مقالة كتبها صاحبها في خضم انطلاق الثورة الليبية أي عام 2011 أي أيام كان سقف احلامنا وربما أوهامنا عال جدًا !!
    وأرجو من الكاتب كي يكتسب خبرة في الحياة ويلج عالم الفقه الواقعي الدقيق والعميق للسياسة وحركة المجتمعات وطبيعة ومآلات الثورات أن يقارن بين ما جاء في مقالته هذه من أفكار وتحليلات وربما خيالات حماسية وبين ما آلت إليه الأمور اليوم في دول الربيع العربي (مصر وليبيا وسوريا)
    سيتم كالعادة تعليق (السبب الأساسي والرئيسي) والمسؤولية في اجهاض ثورات الربيع العربي والحلم الديموقراطي على شماعة (المؤامرة الغربية والصليبية والصهيونية والرجعية العربية)
    وهو تفسير سطحي أدمناه نحن العرب منذ قرون وأصبحنا نتعاطاه بكل أريحية وتلقائية وورثناه لأولادنا جيلًا بعد جيل، حتى تعطلت عقولنا عن التفكير العميق والتفسير الدقيق للأمور !
    في تقديري أن لفشل ثورات الربيع العربي واجهاض حلم الديموقراطية أسباب أساسية وأسباب رئيسية.
    فالأسباب والعوامل الأساسية تتعلق بفكر وثقافة وأخلاقيات شعوبنا وخصوصًا في مسألة فهم الدين والدنيا والدولة والواقع المحلي والدولي ، فهذا عامل أساسي في افشال ثوراتنا ودولنا ومحاولاتنا للنهوض الحضاري والسياسي!
    أما الأسباب والعوامل الرئيسية فتتمثل في تخلف فكر وثقافة وأخلاقيات النخب السياسية العربية (الحاكمة) و(المعارضة) سواء كانت المعارضة اسلاماوية أو علماناوية!
    ولكن كمثقف وسياسي معارض ليبي سابق محسوب على الاتجاه الاسلامي والله لا يخامرني أي شك في أن للاسلاميين بجناحهم السياسي الذي يوصف بالاعتدال – أي جماعة الاخوان وجناحهم المتطرف (السلفية الجهادية) وعلى رأسها الدواعش وأنصار الشريعة – هم – بضيق افقهم وتعنتهم وهلعهم واستعجالهم وافلاس فكرهم الديني والسياسي وضعف اخلاقياتهم وتحويلهم الاسلام لمشروع سياسي – هم من يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن فشل ثورات الربيع العربي واجهاض الحلم الديموقراطي !
    هم السبب الرئيسي في هذا الفشل (الثوري) و(الديموقراطي) سواء في مصر أو ليبيا ثم في سوريا التي بلا شك أدى فشل الثورة في مصر وليبيا إلى التعجيل بالقضاء على الثورة السورية وتقدم النظام السوري
    أنا لا أقول أن الاسلاميين هم السبب الرئيسي الوحيد فهناك أنصار النظام السابق وهناك التطرف العلماني والليبرالي وهناك الأجندات العربية والغربية …الخ
    ولكن كل هذه العوامل ما كانت ستتمكن من اجهاض الثورات العربية لولا البيئة التي وُجدت بسبب تعنت الاسلاميين وتخلف فكرهم الديني والسياسي وضيق أفقهم فهم من اعطى المبرر للكفر بهذه الثورات باستعجالهم السلطة والحكم من جهة كما هو حال (الاخوان) ومن جهة ممارستهم العنف والارهاب كما هو حال (الدواعش) و(انصار القاعدة وانصار الشريعة) ضد الجيش والمثقفين الليبراليين وضد السلفيين !!
    هذه هي حقيقة فشل ثورات الربيع العربي واجهاض الحلم العربي الديموقراطي في هذه التجربة.
    فكما أن (القوميين العرب الاشتراكيين) – ناصريين وبعثيين – كانوا هم السبب الرئيسي في تحطيم الحلم والربيع العربي (الأول) الذي اعقب فترة الاستقلال الوطني فإن (الاسلاميين العرب بإخوانهم وسلفيتهم الجهادية وغير الجهادية، سلفيتهم التكفيرية المعادية للحكام وسلفيتهم الإمامية الموالية للحكام – هم بلا شك السبب الرئيسي في افشال ثورات الربيع العربي (الثاني).
    ولا يمكنهم بحال من الأحوال التنصل من هذه المسؤولية التاريخية مهما أقاموا من مآتم وعويلًا حول صنم (نظرية المؤامرة) التي باتت من ضمن عقائدهم الأساسية حالهم حال القوميين العرب والتي لا يجوز التشكيك فيها أبدًا .
    فالاسلاميون العرب والقوميون العرب على ما بينهم من تناقضات وخلافات فهما متفقان بشكل تام على صحة وقدسية (صنم نظرية المؤامرة الدولية العالمية التاريخية) ضد العرب والمسلمين ولكن بالطبع فإن كل فريق منهما يحاول تأويل نظرية المؤامرة لصالح أجندته ومشروعه السياسي.
    فالاسلاميون يصورون القوميين العرب على أنهم أحد أهم أدوات الغربيين والصهاينة في تدمير العالم العربي وحرمان العرب من التقدم السياسي والاقتصادي والعلمي والتقني والحضاري بينما القوميون العرب يصورون الاسلاميين العرب على أنهم الأداة الرئيسية للاستعمار والصهيونية في هذه المؤامرة الدولية ضد العرب !!….
    والحديث يطول …
    تحياتي

  3. يقول محمد فوزى:

    كل الشكر والامتنان على روعة بوحـك

    وروعة مانــثرت .. وجمال طرحك ..
    دائما متميز في الانتقاء
    سلمت على روعه طرحك
    نترقب المزيد من جديدك الرائع
    دمت ودام لنا روعه مواضيعك

    لك خالص احترامي

  4. يقول 2bac:

    يا اخي ليبيا من اكتر المتضررين وخصوصا ادا لم ينسحب الناتو

  5. يقول #Ls3att:

    تبدوا لي ليبيا اكثر الدول المحرره من استبداد الطاغيه تماسكاً
    نعم لتلك الثوره اثار جانبيه ولكن اذا توحدت صفوف الليبيين تحت راية الاسلام
    والاعتدال بالاضافه لموقفهم السابق مع اسرائيل والحد من التدخل الاجنبي بشؤونها
    فستشهد تطور هائل بسواعد اللبيين الاحرار وعقلياتهم المتفتحه وحماسهم لغد مشرق
    أما إذا سارت كغيرها من الدول التي عمتها الفوضى بسبب التدخل الاجنبي ووجود الطائفيه
    فلن نشاهد في ليبيا سوى ذكريات ثورة كان شعارها معاً نبني وطن الحريه.
    اما قطر فلن نتحدث عنه فالليبيين وحدهم من يستطيع التحدث عنه.

اترك لي أثرك